عندما تريد الشعوب النامية التقدم وتغيير حالها إلى حال التقدم فإنها تحتاج إلى مشاركتها الإيجابية في حل مشكلاتها وقيادة مخلصة واعية قادرة على قيادة تلك الشعوب نحو التقدم الحقيقي والنهضة الدائمة واستغلال الطاقات البشرية والاقتصادية في الحلول المثلى للمشكلات القائمة والمستقبلية.

– هذه المعاني تجسدها قصة ذي القرنين مع الجماعات والشعوب التي التقاها أثناء رحلاته الثلاث الواردة في سورة الكهف.

– من هو ذو القرنين؟ قال تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا» الكهف: 83-85.

– الرحلة الأولى: قال تعالى: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا  قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا» الكهف: 86-89.

– لقد وجد ذو القرنين في هذا المكان قومًا، فدعاهم إلى الله تعالى وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح، قال تعالى: «قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا» الكهف: 87-88.

– إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد (والسرقة من المال العام) والظلم، فالمواطن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من السلطة والحاكم ويكون من بطانته وموضع ثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره، أما المفسد المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العقاب الرادع من الحاكم العادل في الحياة الدنيا، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في الحياة الدنيا.

– والأمر المفروغ منه من هذه السياسة العادلة الواعية والمبادئ السامية أن تثمر حضارة وتقدما وسعادة وطمأنينة (انظر فقه التمكين في القرآن الكريم – أنواعه، شروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه، علي محمد الصلابي، دار الوقاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة: ح.م.ع (ط1) (ص 145) (2001م) (بتصرف قليل).

– الرحلة الثانية: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا» الكهف: 90-92.

– ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن فيها في المغرب ودستوره المعلن والمطبق لم يكرر هنا إعلان مبادئه، لأنها منهاج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل وارتحل (المرجع السابق – ص146).

– فالكيل هنا بمكيال واحد وليس بمكيالين كما تفعل بعض الدول العظمى التي تعتبر نفسها وصية على الدول النامية الضعيفة.

– المرحلة الثالثة: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» الكهف: 93-98.

– القوم والتجمع الموصوف في الآيات السابقات اتصفوا بالصفات التالية:

– قوم متخلفون «لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا».

– هم قوم ضعفاء: ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج والوقوف في وجههم ومنع إفسادهم وغزوهم لبلادهم.

– هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم، ومقاومة المعتدين، وذلك إلى قوة ذي القرنين (المعلومة للجميع)، وطلبوا منه حل مشكلاتهم مع يأجوج ومأجوج والدفاع الدائم عن أراضيهم.

– هم قوم اتكاليون كسالى: لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا يقوموا بعمل جادّ ولذلك أحالوا مشكلتهم على ذي القرنين، وأوكلوا إليه حلها، أما هم فمستعدون لدفع المال فيما يستخرجون من أرضهم من المعادن والزراعات (المرجع السابق) (ص 147).

– لقد كانت سياسة ذي القرنين مع الشعوب والتجمعات المختلفة هي السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العمل والنشاط والقوة ورفع الهمة فكان يدير الأعمال بروح الجماعة، ويشترك بنفسه ويشرك غيره في الأعمال قال: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ»، «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ»، «انفُخُوا»، وبذلك يعلمهم ويدربهم على العمل، والسعي والكسب وبذل الجهد وترك الكسل والاتكالية «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ».

– إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع، وتوجهه نحو التكامل والتعاون لتحقيق الخير والغايات المنشودة.

– لم يكن موقف ذي القرنين من المستضعفين حمايتهم وإنما توريثهم أسباب القوة وعوامل النهضة والتقدم.

– طلب ذو القرنين من الناس أن يعينوه ليساعدهم على حماية أوطانهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات، ويتدربوا على الأعمال الجادة المثمرة، وجعلهم يبنون السد بأنفسهم وهذا أدعى إلى حفاظهم على جهدهم فيه والعمل على إصلاحه وصيانته وحمايته.

إن درس عملي للطلاب في نظافة المدرسة ونظافة البيئة المحيطة بها وبهم تجعلهم يشعرون بالانتماء الى هذه النظافة التي جاءت بجهدهم فيحافظون عليها نظيفة حتى لا تضيع جهودهم.

– ودرس عملي في تشجير شوارعهم في عمل جماعي يجعلهم يحرصون على صيانة الأشجار وحمايتها وعدم الاعتداء عليها.

– وإشراك الشعب في وضع السياسات واتخاذ القرارات ومناقشتها تجعلهم يشعرون أن الوطن وطنهم والسياسة سياستهم والقرارات قراراتهم والمصير مصيرهم.

– القرآن الكريم في هذه القصة يعلمنا ويرشدنا إلى طريق التقدم العملي العلمي التقني والبعد عن الشعارات الخاوية والانتصارات بالخطب الرنانة والأغاني الحماسية وإهمال تعليم وتعلم وتدريب القوى البشرية.

كما يعلمنا القرآن عدم الغرور وعدم الاستعلاء وعدم الكفر بنعم الله ونواميسه في الخلق وقوانينه مع المخلوقين «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» الكهف: 98.

-فلا عَلْمانية (بفتح العين)، ولا تفرعن على الشعوب، ولا طغيان كطغيان قارون.

الحضارة الباقية هي الحضارة المادية التقنية الخُلقية، فنسيان الله يورث الناس الكفر والإلحاد والطغيان وهذه من أهم أسباب زوال الأمم وهلاكها.

– ما أحوجنا إلى دراسة قصة ذي القرنين وتحليل مواقفها تحليلًا علميًا تربويًا بحثيًا حضاريًا لنتعلم منها كيف تنهض الشعوب النامية وتستيقظ الأمم النائمة المتخلفة لنلحق بركب الحاضرة العلمية التقنية الخُلقية الربانية.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٤٥٦ – الجمعة ١٧ يوليو ٢٠٢٠ م، الموافق ٢٦ ذو القعدة ١٤٤١هـ