بقلم: د. نظمي خليل أبو العطا

المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر للانقضاض عليهم واستئصال شأفتهم وإزالة دولتهم والتخلص منهم، يلعبون على كل الاتجاهات، يجلسون على كل الموائد يستخدمون المكر والخداع لخداع المؤمنين وكما يقول الشاعر:

 ذئب تراه مُصليا

 فإذا مررت عليه ركع

 يدعو وكل دعائه

 مالِ الفريسة لا تقع

 فإذا الفريسة سُورت

 ذهب التَنسُك والورع

قال أبو عُبيد: سمي المنافق منافقًا للنفقِ وهو السرب في الأرض، وقيل: إنما سمي منافقًا لأنه نافق كاليربوع (نوع من القوارض كالفئران) وهو دخوله نافقاءَه، وله جُحر آخر يقال له القاصِعَاء، فإذا طُلب من النافقاء خرج من القاصعاء، فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء أو يدخل في القاصعاء ويخرج من النافقاء.

والنِّفاق: بالكسر فعل المنافق، والنفاق بهذا المفهوم (اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وقد بدأ النفاق في المدينة المنورة عندما قوي المسلمون فنافقهم المنافقون.

وخلاصة القول ما قاله ابن رجب في جامع العلوم والحكم والذي فسَّره به أهل العلم المعتبرون: إن النفاق في اللغة هو جنس الخداع، والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه.

ذكر الحافظ ابن رجب في المرجع السابق أن النفاق ينقسم شرعًا إلى قسمين:

أحدهما: النفاق الأكبر: وهو أن يُظهر الإنسانُ الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويُبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه – وأهله في الدرك الأسفل من النار.

الثاني: النفاق الأصغر: وهو نفاق العمل: وهو أن يظهر الإنسان علانية ويبطن ما يخالف ذلك.

والرياء داخل في النفاق ويتضح هذا من قول ابن رجب وابن حجر -عليهما رحمة الله- فالرياء كما عرفه ابن حجر إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها (أو ينخدعوا به) فالمقصود في الرياء والنفاق واحد، وهو إظهار غير ما في السرائر، والله أعلم.

 وقال ابن حجر: الرياء مشتق من الرّئية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها (أو ينخدعوا فيه).

وقال ابن رجب: ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيئ (أو منفعة خاصة)، فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره ويتوصل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه (جامع العلوم والحكم -ابن رجب).

وحكم النفاق إن كان عقديًا فهو كفر صراح وهو كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) النساء (45).

أما إذا كان النفاق عمليًا فهذا ينطبق عليه حكم الرياء، والرياء من الكبائر.

وآيات النفاق في القرآن الكريم تتضمن جملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم وما في نفوسهم من الكيد والبغض للمسلمين ومن اللؤم والجبن وانطماس البصيرة.

تحكي الآيات ذلك كله عنهم بلغة فريدة وصورة عجيبة تحكي ادعاءاتهم الكاذبة واختلافاتهم الباطلة، واتهاماتهم القبيحة قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) البقرة (8)، وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) البقرة (204).

ولكن الله تعالى لهم بالمرصاد، فكان يُعَقِّبُ على أقوالهم بردود يفضحهم فيها، ويكشف مخططاتهم، ويدمغهم بالحقائق، ويكشف ما يبيتون، والآيات تحكي أقوالهم وتظهر نواياهم، ولؤم تحيزهم، وخططهم اللئيمة بأسلوب بليغ، وتصوير مؤثر (لغة المنافقين في القرآن، عبدالفتاح لاشين، دار الرائد العربي، بيروت لبنان (ط1) (ج1) (ص6) (1985م) ).

قال الله عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة (10).

المراد بالمرض هنا: مرض الشك، والشبهات والنفاق، وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه من صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المُردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات، والزنا والفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات، كما قال تعالى: (فيطمع الذي في قلبه مرض) وهو شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فيحصل له اليقين والإيمان والصبر على كل معصية فرفل في أثواب العافية.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) البقرة (11). أي إذا نُهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض وهو العمل بالكفر (والدعوة له) والمعاصي.

(قالوا إنما نحن مصلحون): فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض وإظهار أنه ليس بإفساد، بل هو إصلاح، قلبًا للحقائق وجمعًا بين فعل الباطل واعتقاده حقًّا وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها.

ولما كان في قولهم: (إنما نحن مصلحون) حصر للإصلاح في جانبهم وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح قلب الله عليهم دعواهم بقوله (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) البقرة (12).

هذه الآية تشير إلى نوع من قبائح المنافقين يحكي الله -سبحانه وتعالى- ما أسداه المؤمنون لهم من نصائح حين طلبوا منهم أن يتركوا المنكرات والرذائل التي تؤدي إلى الفتنة والفساد ولكنهم قالوا لا شأن لنا إلا الإصلاح، فكيف ندع ما عندنا من دين ونعتنق دينًا جديدًا لا عهد لنا به ولكن الله تعالى أنبأهم بأنهم هم المفسدون لا غيرهم ولكن لا يشعرون (لغة المنافقين في القرآن الكريم (مرجع سابق) (ص35) ).

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لّا يَعْلَمُونَ) البقرة (13).

أي إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الصحابة رضوان الله عليهم وهو الإيمان بالقلب واللسان (والعمل)، قالوا بزعمهم الباطل أنؤمن كما آمن السفهاء فنسبوهم إلى السفه، وفي ضمن ذلك أنهم هم العقلاء أرباب الحجا والعقول، فرد الله ذلك عليهم وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه وسعيه فيما يضرها، كما أن العقل والحجا معرفة الإنسان بمصالح نفسه والسعي فيما ينفعه وفي دفع ما يضره، فالعبرة بالأوصاف والبرهان، لا بالدعاوى المجردة والأقوال الفارغة (تيسير الكريم الرحمن (مرجع سابق) (ص32) ).

هذه بعض صفات المنافقين في القرآن الكريم وإذا أردنا تطبيقها في الوقت الحاضر وجدناها متجسدة في كثير من العَلمانيين (بفتح العين) القافزين من قطار الشيوعية إلى قطار الليبرالية، ترى السفه في كتاباتهم ومؤلفاتهم ولقاءاتهم في الفضائيات ومساندتهم للباطل ووهمهم أنهم المصلحون الفاهمون وغيرهم جهلاء متخلفون.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٥٦١ – الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٢هـ