بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا موسى
الابتلاء والاختبار سنة من سنن الله في خلقه يميز الله تعالى به الطيب من الخبيث والصادق من الكاذب والقوي من الضعيف والمؤمن من المنافق، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف (7)، وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الملك (2).

– والابتلاء بالشدة تصنع الأقوياء من الجنود والأبناء والآباء والقادة وهذا ما طبقه طالوت مع جنوده، فطالوت كان مقدمًا على معركة فاصلة ومعه جيش من أمة مغلوبة، ذاقت الهزيمة في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه أمة غالبة، فلا بد إذن من قوة كامنة في قلب الجيش تقف أمام القوى الظاهرة الغالبة، هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في قوة الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمات والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات وتؤثر الطاعة وتتحمل تكاليفها فتجتاز الابتلاء، فلا بد للقائد إذن أن يبلو جيشه وصموده وصبره، صبره ثانيا على الحرمان والمتاعب، ولقد اختار طالوت هذه التجربة وهم عطاشى ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه (انظر فقه التمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، قال تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) البقرة (249).

– يا له من موقف تربوي عظيم وابتلاء كبير، الجنود عطشى والماء يجري في النهر كالسلاسل الذهبية فيأمرهم القائد بعدم الشرب منه ومن يشرب يرجع فلا حاجة للجيش فيه فيشربوا منه إلا قليل منهم، وهنا نبين أن الكثرة الضعيفة الخائرة خطر على الجيش كما قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) التوبة (47)، وعندما رأى الجنود كثرة عدد جنود العدو قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) البقرة (249).

– وهنا يتحرك الإيمان في قلوب المؤمنين (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة (249).

– وفي هذا الموقف نرد على أحد المرجفين الذي يقول لو كان عدد جيش المسلمين أقل من نصف عدد جيش الأعداء وجب على الجنود الفرار من المعركة، والمؤمنون الصابرون الصامدون يقولون لهذا المرجف (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة (249).

– (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة (251).

– هذا ميزان النصر للمؤمن:

1- (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).

2- (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

3- (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).

4- (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا).

5- (وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

– فكانت النتيجة:

– (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَهّ).

– وكذلك نصر الله تعالى المسلمين في بدر وهم قلة (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) آل عمران (123).

– هؤلاء رجال نجحوا في الشدة فنصرهم الله تعالى وهم قله.

– ويوم أن اغتر المسلمون بكثرتهم هزموا قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) التوبة (25).

– وكل هذا يظهر فساد الرأي القائل بالفرار من أمام العدو إن كان عدد المسلمين أقل من نصف الأعداء.

– هذا منطق المنهزمين المتبعين للغزو الفكري الهادف إلى زرع الوهن في قلوب المسلمين ونزع فتيل القوة من قلوبهم، ونفس هذا الشخص قال لو قطع عليك قاطع طريق ومعك زوجك فاهرب واترك الزوجة للمغتصبين، وأين الهدي النبوي أن من قتل دون عرضه فهو شهيد؟!

– هذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات، لا بد من بلاء ولا بد من أذى في الأموال والأنفس والثمرات، ولا بد من الصبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإقامة دولة الإسلام التي تحمل الدعوة، وتنهض بتكاليفها طريق التربية للأمة الإسلامية وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة للناس وحقيقة الحياة، إن الابتلاء مكمل لحقيقة الإيمان لأن الإيمان أمانة الله تعالى في الأرض، وهذه الأمانة لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص والذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة وعلى كل صنوف المتاع والإغراء. «التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم (ص237) نقلا عن فقه التمكين في القرآن الكريم (المرجع السابق) (ص377)».

– عندما نجح المسلمون في مرحلة الابتلاء في مكة وتحملوا الشدائد كتب الله تعالى لهم النصر في مرحلة التمكين وإقامة الدولة في المدينة المنورة، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوا المرتدين، وكتبوا القرآن الكريم ووحدوا طبعته وذبوا عنه ما قد يختلط به وفتحوا القلوب والعالم فبنوا حضارة إسلامية علمية خلقية امتدت من جنوب فرنسا إلى الهند والصين ومن جنوب المجر حتى عدن وذلك لنجاحهم في الابتلاء والشدة وصبرهم على تكاليف الدعوة قال الله تعالى عنهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) الأحزاب (23-23).

– فهم:

– (رِجَال) نجحوا في الابتلاء.

– (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).

– (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) عند الوفاء بعهدهم مع الله.

– (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الدور في الوفاء الكامل بما عاهد الله عليه.

– (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) فهم ثابتون على الحق والوفاء بالوحدة وبتكاليف الرجولة والإيمان والله (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ).

هذا هو الطريق لبناء الدولة والقوة والنصر والتمكين وإقامة حضارة إسلامية زاهرة كما فعل الجيل الصادق من أجدادنا المؤمنين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٥٦٨ – الجمعة ٠٦ نوفمبر ٢٠٢٠ م، الموافق ٢٠ ربيع الأول ١٤٤٢هـ