بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا

خلق الله سبحانه وتعالى الأرض لعباده جميعًا المؤمن والكافر كما قال تعالى: (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) الرحمن (10)، ومن زرع في الدنيا حصد (كلاًّ نُّمِدُّ هـؤلاء وَهـؤلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا) الإسراء (20)، وقدر الله تعالى في الأرض أقواتها وما يصلح معايش أهلها وأعطى الفرصة كاملة لكل عبد من عباده وكل جماعة وشعب من عباده وشعوبها، وقد علم الله تعالى نبيه أن يعلم المسلمين كيف يستغلون الفرص والنعم المتاحة لهم وعدم تضييعها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).

(شبابك قبل هرمك): فمرحلة الشباب هي مرحلة البناء العلمي ومرحلة التأسيس للحياة وتعلم مهاراتها، حيث القوة والجلد والبناء والتأسيس، وإن ضاعت مرحلة الشباب فقد ضاع من الإنسان أهم مرحلة عمرية في حياته وأهم فرصة وهبها الله تعالى له، من هنا قال الإمام الشافعي رحمه الله للشباب:

اصبر على مر الجفن من معلم

فإن رسوب العلم في نفراته

فذات الفتى والله بالعلم والتقى

إن لم يكونا لا اعتبار لذاته

ومن فاته التعليم وقف شبابه

فكبر عليه أربعًا لوفاته

فمن فاته تعلم اللغة العربية في التعليم العام والجامعي ظل طوال حياته ضعيفًا فيها ومن فاته تعلم اللغات المهمة في هذه المرحلة ظل ضعيفًا فيها طوال حياته، ومن فاته تعلم العلوم الكونية في شبابه ظل طوال حياته جاهلاً بها ومهما بذل من جهد يظل ضعيفًا فيها، من هنا كانت هذه المرحلة هي المرحلة الأساس في التعليم والتعلم والتخصص الدقيق وإجراء البحوث العلمية للماجستير والدكتوراه بسهولة ويسر، ومن ضاعت منه هذه الفرصة خسر خسارة كبيرة فهذه البحوث تحتاج إلى جد واجتهاد وبحث ومثابرة وهذا ما يقدر عليه الشاب ويتعذر القيام به بعد الشباب، فعلى كل والد أن يعلم ابنه أهمية مرحلة الشباب في البناء العلمي والعملي والأخلاقي في هذه المرحلة، والأمة تتقدم بشبابها وجهودهم، لذا وجب الاهتمام بالشباب وتعليمه وتعلمه وتدريبه وإعداده ليتحمل المسؤولية في الدولة، وهذا ما طبقه المصطفى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده فاعتنوا بالشباب عناية كبرى فمعظم الصحابة في المرحلة المكية ومرحلة بناء الدولة في المدينة المنورة كانوا شبابًا، والذي جمع القرآن كان شابًا قويًا أمينًا طلب منه الصحابة جمع المصحف، وكذلك طلب المصطفى صلى الله عليه وسلم منه تعلم السريالية، والذين أرسلهم المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة كانوا شبابًا، والذي قدم الإسلام أمام النجاشي وقومه المسلمين كان شابًا وبذلك أسس المصطفى صلى الله عليه وسلم لدولة إسلامية فتية حاربت المرتدين وحمل المسلمون الرسالة إلى العالم وربعى ابن عامر وقادة معركة مؤتة كانوا شبابًا، من هنا من ضاعت منه مرحلة الشباب فقد فقد فرصة عمره الذهبية لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك). فالهرم مرحلة الضعف والأمراض المزمنة لذلك فإن معظم المرضى المراجعين في المصحات العمومية من المتقاعدين وكبار السن.

(وصحتك قبل سقمك): فالصحة نعمة كبرى تعين الإنسان على السعي والبناء والتأسيس والإنجاب وتربية الأبناء في همة ونشاط، فالصحيح يجالد في تحصيل العلم النافع وأداء العبادة وبذل الأوقات في النهضة والعمل النافع. وكثير من الناس مغبون في الصحة والفراغ حيث لا يدرك الأمر إلا بعد زوالهما من بين يديه ومن حياته.

(وغناك قبل فقرك): فالمال هو أساس بناء الحياة القوية والإنسان لا يأمن الفقر في أي مرحلة من مراحله، لذلك علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نغتنم الغنى والمال في تشييد المشاريع الاقتصادية والعلمية والتربوية والاجتماعية النافعة، فالمال نعمة ينعم بها الله على بعض عباده. والفطن الذكي الذي يتصرف بحكمة ورشد في ماله، قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) النساء (5).

وقال تعالى: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إذا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فإن آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا) النساء (6).

فالتصرف الرشيد في المال يؤدي إلى اعطاء اليتيم ماله ليتصرف فيه، والسفه يمنع اليتيم من أخذ أمواله حتى لا يبددها.

(وفراغك قبل شغلك): وهذا مبدأ عظيم في استغلال الأوقات والحرص على اغتنامها في النافع والمفيد، ومصيبة الأمم المتخلفة هذه الجيوش من الجالسين على المقاهي وأماكن اللهو وعدم الحرص على الوقت، فالوقت هو العمر وهو الرصيد الغالي لدى الإنسان، وقد نبهنا المصطفى أن كثيرًا من الناس مغبون في الصحة والفراغ، وأن اغتنم كل إنسان وقت فراغه في النافع والمفيد زاد الإنتاج وقلت البطالة وتقدمت الأمة وسعدت الأسرة بأبنائها، فالفراغ مهلكة وهو من مداخل الشيطان على الإنسان وفرصة لقرناء السوء والسلوكيات الخاطئة والإنحراف.

(وحياتك قبل موتك): فالحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة للإنسان للعمل والإنتاج والبناء والتقديم للحياة الآخرة الباقية، فمن ضاعت منه الحياة الدنيا ندم ندمًا شديدًا يوم لا ينفع الندم ويوم القيامة ينادي المفرط في حياته قائلاً: (يا ليتني قدمت لحياتي)، فالحياة الدنيا نعمة كبرى أنعم الله بها على عباده، ومن زرع في الدنيا حصد في الدنيا، والمؤمن يحصد في الآخرة جراء عمله الصالح في الدنيا وعندما يموت الإنسان يذهب إلى قبره بما قدم في الدنيا من أعمال نافعة، وتظل بعض الأعمال جارية عليه بعد وفاته كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم نافع ينتفع به وولد صالح يدعو له.

وبذلك يعلمنا المصطفى اغتنام النعم الربانية وعدم تضييعها حتى لا يندم الإنسان يوم لا ينفع الندم.

إنها التربية الرشيدة للحياة والآخرة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٦٨٧ – الجمعة ٠٥ مارس ٢٠٢١ م، الموافق ٢١ رجب ١٤٤١ هـ