بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا

عندما رزقني الله تعالى بطفلي الأول فكرت كيف أربي هذا الابن التربية الناجحة، جلست أفكر، كتبت الصفات التي سنربيه عليها وجدت أن الصفة الأولى التي سنربيه عليها هي الصدق وخططنا لغرس هذه الصفة فيه فعلمت أنني يجب أن أكون أمامه قدوة عملية في الصدق ظاهرًا وباطنًا، في القول والعمل وعندما أعددت بحثًا في بناء الشخصية الإسلامية في السيرة النبوية بدأت بصفة الصدق وجعلتها من السمات الرئيسة للشخصية الإسلامية، لأن خلق الصدق هو أساس الأخلاق الإسلامية كلها، ولذلك أولى القرآن الكريم هذه السمة اهتمامًا خاصًا، ويظهر ذلك من كثرة الآيات القرآنية التي تناولت الصدق بمختلف الأساليب، فقد ذكر الله تعالى الصدق وما يتعلق به في أكثر من مائة وعشرين موضعًا في القرآن الكريم، كما اهتمت السنة النبوية المطهرة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتربية الإسلامية بخلق الصدق اهتمامًا بالغًا، ولقب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين لصدقه وأمانته وأمرنا الله تعالى بأن تكون مع الصادقين فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة (119)، (الصدق في القرآن الكريم دراسة موضوعية، مذكر محمد عارف (ص6)).

وقد أمر الله تعالى المسلمين بالصدق في القول فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) الأحزاب (70-71)، وبذلك جعل الله تعالى الصدق طريق إصلاح العمل ومغفرة الذنوب للمؤمنين.

وأمرهم الله تعالى بالصدق في القول والفعل والقصد فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة (119).

وكذب الله تعالى المنافقين على شهادتهم المخالفة لاعتقادهم فقال تعالى (ِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) المنافقون (1).

ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدق وحببه إليهم وحذرهم من الكذب وبغضه إليهم فقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي).

وفي هذا الهدي النبوي يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن الصدق فضيلة الفضائل، وأس الخلائق، وأنه يُعلي صاحبه عند الله تعالى وعند الناس جميعًا فيجعله موضع ثقتهم، مرغوب الحديث عندهم، محبوبًا إليهم، محترم الكلمة عند حكامهم، مقبول الشهادة عند قضاتهم، مقضي الحاجة عند تجارهم وغيرهم، كما أن الكذب أسُّ الرذائل، به يتصدع بنيان المجتمع، ويختل سير الأمور، ويسقط صاحبه من العيون، لا يصدقونه في قول، ولا يثقون به في عمل، ولا يحبون له مجلسًا، أحاديثه منبوذة، وشهادته مردودة، لذلك نهى الله تعالى عنه في آيات كثيرة، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه بالقول والتربية، وربى المسلمين على ذلك. الأدب النبوي، عبدالعزيز الخولي (ص187).

من هنا كان الصدق مفتاح بناء شخصية المسلم، وبذلك قضى الله تعالى وهداني إلى الصفة الأولى التي عودت نفسي عليها وربيت أبنائي عليها.

وعن عبدالله بن عامر قال: (دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (ما أردت أن تعطيه، قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، قال: (أما إنك لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة) (رواه أبو داود).

وهكذا كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعليم وتعلُم الآباء والأمهات الصدق حتى ينشؤوا أولادهم تنشئة يتألفون فيها الصدق ويتنزهون عن الكذب) (الصدق في القرآن الكريم -دراسة موضوعية) (مرجع سابق (ص99).

وعندما يتحرى المسلم الصدق في نيته وأقواله وأفعاله وتربيته لنفسه ومن يرعاهم ويحببهم فيه، ويبغض الكذب في النية والقول والفعل والتربية يصبح أنموذجًا يحتذى مع أبنائه وزوجه وأرحامه وجيرانه وفي العمل والإنتاج والتنفيذ فيقتدون به ويقلدونه ويحترمونه ويألفونه ويثقون فيه ويرى غير المسلمين فيه صورة صادقة لدينه وخلقه الإسلامي.

وعندما تعلم الصحابة رضوان الله عليهم الصدق من الحبيب صلى الله عليه وسلم وطبقوه في حياتهم، وفي البلدان التي فتحوها، والبلاد التي تاجروا فيها وغيرها وتأسى المسلمون بهم كانوا بفضل الله ثم بفضل صدقهم سببًا في إسلام سكان أكبر البلدان في شرق آسيا وفي إفريقيا، وعندما يصدق المسلمون في تعمير الكون بنواميس الله في الخلق فإنهم يشيدون حضارة علمية خلقية تتشوق إليها بلاد العالم وتفتقر إليها البلدان ذات الحضارة العلمية المادية فقط المسماة بالبلاد العلمانية (بفتح العين)، وعندما نصدق في تربيتنا وزراعتنا وصناعتنا وتجارتنا وعلميتنا وبحوثنا العلمية نفتح أسواقا عالمية تثق في منتجاتنا ومعاملاتنا ومخرجاتنا التربوية والعلمية وهذا ما حققناه لمدة ألف عام في حضارتنا الإسلامية التي مازالت آثارها تشهد لها بالصدق في التشييد والبناء والتأليف والسلوك. (بناء الشخصية الإسلامية في السيرة النبوية (مرجع سابق)(ص152).

ويكفي قول الله تعالى فيمن شيدوا هذه الحضارة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) الأحزاب (23-24).

فهم رجال، مؤمنون، صادقون، قائمون على صدقهم في وعدهم ولم يبدلوا أخلاقهم ومبادئهم وعقيدتهم لذلك كتب الله تعالى لهم النصر والتمكين والعزة والقيادة للعالم. وعندما اقتدينا بهم وسرنا على نهجهم ومنهاجهم وتربيتهم وسلوكهم شاركنا في بناء واستمرار حضارتهم.

وعندما تخلينا عن مبادئهم ومنهاجهم وصدقهم لعب بنا المستعمرون والمرجفون والعلمانيون (بفتح العين) والملحدون والكافرون وشتتونا وفتنوا ديارنا وزرعوا الفتن الطائفية والعرقية في نفوسنا وصرنا أقل دول العالم تقدمًا وصدقًا وعلمًا وأخلاقًا والعياذ بالله، والحل هو العودة إلى الصدق في تربيتنا وقولنا وفعلنا وإيماننا بالله.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٦٩٤ – الجمعة ١٢ مارس ٢٠٢١ م، الموافق ٢٨ رجب ١٤٤١ هـ