من الخير أن نعلم أفضل أنواع البر التي أهملناها ونسيناها وانشغلنا بما هو أدنى منها من صلوات النافلة، والعُمْرة المكرورة، والأنشطة المرجوحة، وحتى نعلم هذه الأنواع الفاضلة والرابحة نعرض عليكم الموقف الثاني المجسد لتلك الفريضة الغائبة والتي تركناها فتخلفنا وأضعنا أجيالنا وحضارتنا وديارنا.
الموقف:
كتب عبدالله العمري العابد إلى الإمام مالك يحضه على الانفراد والعمل «أي: الاعتزال والتعبد في العزلة» فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله: إن الله تعالى قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فَرُبّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له الجهاد، فَنَشْرُ العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون «أي: أقل» مما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. [سير أعلام النبلاء 102/8، نقلاً عن التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، مرجع سابق، ج: 18، ص: 330].
العبر: قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق: وهكذا أبان الإمام مالك رحمه الله فضل العلم وبيّن لذلك العابد شمول العبادة، حيث بين له أن نشر العلم من أفضل الأعمال الصالحة، وأن العالم الذي ينشر علمه ليس بأقل عملاً ممن قصر عمله على أداء الشعائر التعبدية.
وهذه نظرة صائبة ومهمة في بيان شمول العبادة، حيث تشتمل على كل عمل مشروع أراد به فاعله وجه الله تعالى، وأن أفضل الأعمال التي تدخل في ذلك نشر العلم النافع، بل إنه أفضل من الاقتصار على أداء الشعائر التعبدية من النوافل.. لأن النوافل نفعها قاصر على فاعلها، ونشر العلم النافع يصل نفعه إلى من قام به ومن استفاد من ناشره.
هذا إضافة إلى الأدلة الصحيحة الصريحة التي تدل على فضل نشر العمل والدعوة إلى الإسلام، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلّم القرآن وعلمه [رواه البخاري]، وقوله صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمر النعم. وقوله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن «يعني: يعلمه للناس» كمثل الأتْرُجه «نوع من البرتقال» ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. [جزء من حديث راه البخاري]، وهذا صريح في تفضيل معلم العلم على اقتصار العبادات الخاصة.
بل أصرح من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. [صحيح الجامع الصغير].
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير. [صحيح الجامع].
كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الاشتغال بالعلم أفضل وأحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع. [صحيح الجامع].
ويربط النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الخير والفقه في الدين كما في قوله: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. [صحيح الجامع].
وذلك أن عبادة الله تعالى بغير فقه قد تضر صاحبها، وذلك فيما إذا عبد الله بغير ما شرع.
فهذه النصوص وأمثالها تدل على فضل الاشتغال بطلب العلم النافع ونشره على الاشتغال بنوافل العبادة، وإن كان الكمال في الجمع بين ذلك إن استطاع وإن خير اختار نشر العلم.
ولو أن الإمام مالك رحمه الله وأمثاله من العلماء العاملين ساروا على منهاج ذلك العابد الذي أشار على الإمام مالك بالعزلة والاشتغال بنوافل العبادة لما نُشر العلم ولعبد الناس ربهم على جهل، وما ذلك الاهتمام الذي تمتع به ذلك العابد إلا بفضل الله ثم بفضل ما بلغه من العلم عن طريق العلماء الذين تقربوا إلى الله تعالى بنشر العلم وتعمير مدارسه.. انتهى.
ويكفي الإنسان فضلاً أنه إذا مات وترك علمًا نافعًا منشورًا ينتفع به يصل إليه ثواب هذا العلم بعد موته.
وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم العلوم إلى قسمين كبيرين: علم نافع وعلم غير نافع، فقال في الحديث الصحيح: وعلم نافع ينتفع به. وهذا ضمنا يدل على العلم غير النافع.
ومن العلوم النافعة العلوم الشرعية والعلوم الكونية [أحياء، كيمياء، فيزياء، فلك، طب، جيولوجيا، رياضيات].
وهناك العلوم المخدومة مثل العلوم الشرعية والعلوم الكونية السابقة، وعلوم خادمة مثل علوم المحاسبة، واللغة، والمحاماة، والمعلومات، والاقتصاد، والتربية، والفن، وغيره.. [انظر كتابنا مقدمة في منهاج البحث العلمي لطلبة المعاهد الشرعية، معهد الإمام الشافعي؛ البحرين].
وعندما أخذ المسلمون بالعلوم والمنهاج العلمي شيدوا حضارة يتيه الزمان بها فخرًا، وعندما تخلينا عن تحصيل العلوم النافعة وتطبيقها وبناء المدارس والجامعات والكتاتيب ووقف الأوقاف عليها كما فعل أسلافنا تخلفنا وأصبحنا عالة على غير المسلمين في المأكل والمسكن والملبس والدواء والتسليح وأصبحنا ألعوبة في يد الأعداء وأضحوكة في كل العالم.
لقد وجهنا الأوقاف للمساجد والعبادة وأهملنا أوقاف التعليم والتعلم وهذا من الأسباب الرئيسية لتخلفنا العلمي والتقني والحضاري.
نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٩ – الجمعة ٠١ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ١٦ رمضان ١٤٣٩هـ