في غزوة مؤتة الفريدة من نوعها في الإسلام حيث قابل ثلاثة آلاف مقاتل مسلم، ساروا مسافة ألف ومائة كيلومتر من المدينة إلى مؤتة، مائتي ألف مقاتل من الروم وحلفائهم من العرب المنتصرين، فبعدما شاط القائد الأول للجيش الإسلامي زيد بن حارثة الكلبي (رضي الله عنه) حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كاد يسقط هذا البطل شهيدًا في سبيل الله تعالى حتى تلقف منه اللواء، ومن ثم خلفه في القيادة بحسب القائد الأعلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بطل آخر شاب من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم موئل البطولات وأركان الشجاعة، ولا غَرْوَ في ذلك فهو جعفر بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال وقائد الشجعان.

الموقف:

يتقدم البطل الشاب جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بفرسه يصول ويجول براية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما ألحمه القتال، ترجّل عن فرسه، كما يذكر أحد شهود العيان: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم راجلاً وهو يرتجز:

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

علي إذا لقيتها ضرابها

ثم اندفع يقاتل بشجاعة نادرة، وجرأة لا مثيل لها، ورباطة جأش عظيمة، والضربات تنهال عليه من كلّ جانب ما بين طعنة رمح، وضربة سيف ورمية نبل، من دون أن تثنيه عن الاستمرار، أو تعيق تقدمه بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان رمزًا عظيمًا للمسلمين في معاركهم، لأجل ذلك كان تركيز العدو على إسقاط الراية شديدًا، فلما أعياهم البطل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بقوة تماسكه، ورباطة جأشه العظيمة، ورأوا أن الضربات على جسده لم تزده إلاّ إمعانًا وتقدمًا نحو صفوفهم، عندها حوّلوا ضرباتهم إلى اليد العظيمة التي كانت تمسك اللواء بقوة وتقاتل به بلا هوادة فقطعوها، وظن الأعداء أنها النهاية، وأن اللواء سوف يسقط فتسقط معه معنويات المسلمين، ولكن القائد العظيم تلقفه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه، ولكن رغم استبسال جعفر وثباته هذا فقد انتهى صموده الرائع بأن سقط شهيدًا بعد أن اعتورته سيوف الرومان، وهو يحتضن اللواء بعضديه في إصرار وتصميم، حتى صعدت روحه الطاهرة، ليأخذ مكانه مع الصديقين والشهداء، بل بين الملائكة المقربين.

فقد صح أن الله سبحانه وتعالى قد عوضه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما أخبر البخاري والطبراني وابن سعد في الطبقات والترمذي وابن عساكر وغيرهم، ويأكل من ثمار الجنة حيث شاء، ولذلك سمي الطيار في الجنة.

العبر:

بالموقف السابق يكون جعفر بن أبي طالب أول من حاز لقب طيار في التاريخ الإسلامي، ويتفرد به من دون الناس أجمعين، ولكنه في الوقت ذاته ليس طيارًا عاديا أو رائد فضاء، بل طيارًا في الجنة مع الملائكة المقربين، يطير مع جبريل، وميكائيل، وقد ميزه الله سبحانه وتعالى عن الملائكة بأن جعل جناحيه مضرّجين، مخضوبة قوادمه بالدماء، وذلك على أنهما وسام شرف علوي منح له مكان يديه اللتين ضحى بهما بإصرار في سبيل الله، وهو يقاوم بقوة وعناد عجيبين ألا تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا.

نعم سقط القائد الشاب شهيدًا وفي جسده بضع وتسعون ضربة ما بين طعنة ورمية، منها خمسون بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره يعني ظهره، وفي ذلك بيان فرط شجاعته وإقدامه رضي الله عنه.

ومن العجيب أن البعض يغيبون هذا الدور البطولي الرائع لأحد أبناء أهل البيت الطاهرين المجاهدين، فلماذا نهمل هذا الموقف البطولي الرائع لسيدنا جعفر بن أبي طالب؟!

الأمر يحتاج إلى مراجعة ودراسة لبيان أسباب التغييب الإعلامي للدور البطولي لهذا المجاهد العظيم والطيار الفريد.

فلما قتل جعفر، أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، وكان لمقتل صاحبيه الواحد تلو الآخر على ذلك النحو المؤثر أثره في نفسه، فيذكر ابن إسحاق بسند حسن عن شاهد عيان من بني مرة أنه جعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويرتجز:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرمنّه

إن أجلب الناس وشدوا الرّنة

مالي أراك تكرهين الجنة

قد طال ما كنت مطمئنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال أيضًا:

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حِمَام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلاهما هُديت

يريد صاحبيه زيدًا وجعفرَ، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عمر له بعرق من عظم عليه لحم ثم قال: شدّ بهذا صلبك فإنه قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فقاتل حتى طعن فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه ثم صرع بين الصفين.

وهكذا يسجل جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة أنموذجًا فريدًا في الجهاد في سبيل الله في مؤتة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٦ – الجمعة ٠٨ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ٢٣ رمضان ١٤٣٩هـ