كلما قلَّبت صفحات التاريخ وجدت أن خير الأصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اتبعوه في مرحلة الاستضعاف فصبروا على البلاء ونجحوا بامتياز في اختباره حتى وصلوا إلى مرحلة التمكين.

واتعبوه في مرحلة التمكين وعزروه ونصروه بأمواله وأنفسهم حتى أقاموا دولة الإسلام الفتية بقيادته في المدينة المنورة.

واتبعوه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى وساروا على هديه واتبعوا سنته ولم يبتدعوا في دينهم حتى فتحوا البلدان ونشروا الإسلام فامتدت دولتهم من الصين شرقًا إلى إسبانيًا غربًا ومن المجر وجنوب فرنسا شمالاً حتى اليمن وعدن جنوبًا فكانت أعظم امبراطورية عرفها التاريخ البشري.

وفي هذا الموقف نعرض عليكم أنموذجين من مرحلتي الاستضعاف والتمكين لنرى مدى توفيق الله لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الأمانة والصدق والوفاء بالوعد والتضحية بالنفس.

الموقف:

شرح الله صدر سعيد بن عامر للإسلام فقام في ملإٍ من الناس وأعلن براءته من آثار قريش وأوزارها، وخلعه لأصنامها وأوثانها ودخوله في دين الله.

دخل سعيد على عمر بن الخطاب في أول خلافته فقال: يا عمر أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله وألا يخالف قولك عملك فإن خير القول ما صدقه العمل، يا عمر: أقم وجهك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم، فقال عمر: ومن يستطيع ذلك يا سعيد؟!، فقال سعيد: يستطيعه رجل مثلك ممن ولّاهم الله أمر أمة محمد وليس بينه وبين الله أحد.

قال عمر: يا سعيد إني موليك على أهل حمص، فقال: يا عمر ناشدتك الله ألاّ تفتنّي، فغضب عمر وقال: ويحكم وضعتم الأمر في عنقي ثم تخليتم عني؟ والله لا أدعك.. ثم ولّاه على حمص وقال: ألا نفرض لك رزقًا (أي نجعل لك راتبًا)، فقال سعيد: وما أفعل به يا أمير المؤمنين فإن عطائي من بيت المالي «أي: حقي في بيت المال» يزيد عن حاجتي. ثم مضى إلى حمص.

وما هو إلا قليل حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص فقال لهم: اكتبوا لي أسماء نظرائكم حتى أسدّ حاجتهم، فرفعوا إليه كتابًا، فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر.

فقال عمر: ومن سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال عمر: أميركم فقير، قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة، وقال: اقرؤوا عليه السلام مني وقولوا له بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجتك.

قال سعيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، دخلت علي الدنيا لتفسد أجري، وحلت الفتنة ببيتي، وأخذ الدنانير ثم وزعها على فقراء المسلمين.

وبعد مدة جاء إلى أمير المؤمنين وفد من حمص فقال عمر: كيف وجدتم أميركم، فشكوه إليه وذكروا له أربعًا من أفعاله، كل واحد منها أعظم من الآخر، قال عمر: فجمعت بينه وبينهم ودعوت الله ألّا يخيب ظني في سعيد، فقد كنت عظيم الثقة فيه.

سألهم عمر ومعهم سعيد: ما تشكون أميركم؟!

قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.

قال عمر: وما تقول في ذلك يا سعيد؟!

فسكت قليلاً ثم قال سعيد: فإنه ليس لأهلي خادم، فأقوم كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس.

قال عمر: وما تشكون منه أيضًا؟، قالوا: إنه لا يجيب أحدًا بليل، قال عمر: وما تقول يا سعيد؟!

فقال: جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل.

قال عمر: وما تشكون منه أيضًا؟!

قالوا: إنه لا يخرج إلينا يومًا في الشهر.

قال عمر: وما هذا يا سعيد؟!، قال سعيد: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي عليّ، فأنا أغسلها في الشهر مرة وأنتظرها حتى تجف ثم أخرج إليهم في آخر النهار.

ثم قال عمر: وما تشكون منه أيضًا؟!

قالوا: تصيبه من حين لآخر غشية «إغماءة» فيغيب عمن في مجلسه، قال عمر: وما هذا يا سعيد؟!

قال سعيد: شهدت مصرع خُبَيْب بن عيد وأنا مشرك، ورأيت قريشًا تقطع جسده وهي تقول له: أتحب أن يكون محمدًا مكانك؟

فيقول خبيب: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي، وأن محمدًا تشوكه شوكة وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أنّيِ تركت نصرته إلاّ ظننت أن الله لا يغفر لي وأصابتني تلك الغشية.

عند ذلك قال عمر: الحمد لله الذي لم يخيب ظني به.

ثم بعث له عمر بألف دينار أخرى ليستعين بها على حاجته، فأخرجها سعيد للفقراء من الأرامل والأيتام والمساكين وإلى المحتاجين. [انظر «صور من حياة الصحابة»، عبدالرحمن رأفت باشا، ص: 19].

العبر:

أمير المؤمنين يختار ولاته وعماله ويتابعهم ولا يعطيهم الثقة العمياء ولكن يسأل عنهم ويختبرهم مهما كانت ثقته بهم، فالمنصب يُفسد، والثقة المطلقة مفسدة مطلقة.

سعيد كان نعم الوالي ونعم الراعي الأمين وهذا يذكرنا بذلك الثوري الذي تولى نيابة الرئيس وهو فقير يرتدي أردأ الثياب ثم بعد أن تولى الرئاسة صنع له بدلة من الحرير مطبوعا عليها اسمه كما تطبع الكتابة على أغلى الملابس، وأخذ هدايا من الناس بملايين الجنيهات وأصبح رصيده في البنوك بالمليارات فرحم الله سعيدًا، ورحم أهل التقوى والورع الذين سطروا في التاريخ نماذج عليا ينظر إليها كل إنسان، والسعيد من حاول الاقتراب من أفعالهم ودخل التاريخ والجنة من أبوابهم.

الموقف الثاني:

رفع خبيب بن عدي على خشبة، وشهد سعيد بن عامر قومه وهم يمثلون بخبيب حيًا، فيقطعون من جسده القطعة وهم يقولون له: أتحب أن يكون محمدًا مكانك وأنت ناجٍ؟! فيقول خبيب والدماء تنزف منه: والله ما أحب أن أكون آمنًا وادعًا في أهلي وولدي، وأن محمدًا يوخز بشوكة.

فيلوح الناس بأيديهم في الفضاء ويتعالى صياحهم: اقتلوه اقتلوه اقتلوه.

كان سعيد يرى خبيبا في منامه، ويراه وهو مستيقظ ويمثل أمامه في هذا المشهد الرهيب ويسمع صوته وأصوات الكفار من حوله، فيخشى سعيد أن تصعقه صاعقة أو تخرّ عليه صخرة من السماء، ويسمع داخله من يقول له: لماذا لم أدافع عنه وأنا قادر على ذلك؟!

وهكذا علم خبيب سعيدًا أن الحياة الحق في العقيدة الصحيحة والجهاد في سبيل الله والثبات على الحق، وعلمه أن الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب ويصنع المعجزات وعلّمه أمرًا مهمًا: وهو أن الرجل الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب إنما هو نبي مؤيد من الله سبحانه وتعالى. [انظر المرجع السابق].

العبر:

العبرة من موقف خبيب أن دولة الإسلام قامت على رجال رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم مدرسة للرجال في التاريخ البشري فأقاموا دولة عظيمة لم ير التاريخ مثلها وستعود تلك الدولة بفضل الله ثم بفضل رجال اتخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمًا ورسولاً، واقتدوا بصحابته بإذن الله.

[المرجع: صور من حياة الصحابة، عبدالرحمن رأفت الباشا، دار الأدب الإسلامي للنشر والتوزيع، القاهرة: مصر، ط: 1، ص: 17، 1997م].

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٥ – الخميس ٠٧ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ٢٢ رمضان ١٤٣٩هـ