قرأت عنوان كتاب منذ نصف قرن من الزمن، استغربت من هذا العنوان الغريب: القمامة ثروات، كيف هذا وأنا أرى أن من كبرى المشكلات في حياتنا القاهرية تلك المخلفات التي تثير الاشمئزاز في النفوس، تذكرت سكان قريتنا الخالية من الطرق المرصوفة وحاويات القمامة وأسلوب الصرف الصحي الجماعي ومع ذلك لم أشاهد يومًا مشكلة للقمامة أو تعثرت قدماي في الطريق أو فاضت مياه الصرف الصحي، أتذكر بنات القرية أثناء صلاة الفجر للرجال في المسجد وهن ينظفون الطرقات في عمل جماعي عجيب، ثم يأتي الرجال من المسجد وقد حمل كل منهم دلوًا مملوءًا بالماء من الترعة ويقومون بالتناوب والتواصل في رش الشارع الرئيس في القرية بالماء، وعند سطوع الشمس يتحول الطريق إلى طريق نظيف خالٍ من التراب تُسر لرؤيته.

تذكرت تلك الأماكن المعدة لتجميع القمامة بطريقة تحول دون انبعاث الروائح الكريهة فلا بقايا طعام تلقى على الأكوام، ولكن تتولى الطيور التهامها وإعادة تدويرها.

أتذكر الفلاحين وهم يحملون تلك الأكوام بعد تعتيقها وتخميرها وتهشيمها ويذهبون بها إلى الحقول ويبعثرونها فيها لتتحول إلى اسمدة عضوية لزراعة خالية من المواد الكيماوية. تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ هذا الموقف العظيم الذي حول قمامة أسرة سعيد وجيرانه إلى منجم للذهب.

الموقف:

كان سعيد ينهي زوجته وخادمته عن إخراج الكساحة «أي الكناسة» من صحن الدار، وأمر الخادمة أن تجمع الكناسة من دور الجيران وتلقيها على كساحتهم، فإذا كان الحينُ جلس سعيد وأسرته وجاءت الخادمة ومعها زنبيلٌ فعزلت بين يدي سعيد وأسرته من الكساحة زنبيلاً.

ففتشت أسرة سعيد واحدًا واحدًا فإن أصابوا دارهم وصُرَّةً فيها نفقة والدينار وقطعة حُليّ فسبيل ذلك معروف.

وأما ما وجدوا فيها من الصوف فكان وجه ذلك أن يباع إذا اجتمع من أصحاب البراذع «أكسيه ظهر الدواب» وذلك الفعل مع قطع الأكسية.

وما كان من خرق الثياب، فمن أصحاب الصينيات والصّلاحيات والصفارين «أي مبيضي الأواني النحاسية».

وما كان من قشور الرمان فإلى الصباغين والدباغين «دباغي الجلود».

وما كان من القوارير «الأواني الزجاجية» فلأصحاب الزجاج، وما كان من نوى البلح والتمر فإلى أصحاب الخشوف، وما كان من نوى الخوخ فإلى أصحاب الغرس، وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين، وما كان من القراطيس الورقية فللطرازين، وما كان من الصّحف فلرؤوس الجرار، وما كان من قطع الخشب فللأكافين «أي صانعوا براذع الحمير» والنجارين، ما كان من قطع العظام فللوقود والفّرانين، وما كان من قطع الخزف فللتَّنانير «الأفران» الجدد، وما كان من الحصى فهو مجموع للبناء.

ثم يُحرك المتبقي حتى يجتمع قُماشُه الأشياء القابلة للاحتراق ثم يعزل للتنور «الفرن»، وما كان من قطع القار «الزفت» فيباع للقيّارين؛ فإذا تبقى التراب خالصًا وأرادوا أن يضربوا منه اللّبِنْ «الطوب الأخضر غير المحروق» فللبيع أو الحاجة إليه.

ولم يتكلف سعيد الماء، ولكن يأمر جميع من في الدار ألاّ يتوضئوا ولا يغتسلوا إلاّ عليه فإذا ابتل عجنه وضربه لبنًا أي طوبًا أخضرًا.

العبر:

هكذا عرفت أسرة سعيد وبلدة سعيد وجيران سعيد تدوير القمامة والانتفاع بكل شيء فيها حتى التراب.

وبذلك تحولت القمامة إلى منجم للذهب، وتحولت النفايات إلى ثروات. هذا عنوان الكتاب الذي أثار اهتمامي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.

ماذا صنعنا في قمامة قُرانا ومنازلنا ومدننا تحولت إلى أكوام من الروائح النتنة والمناظر المقززة والجهل المطبق والإهمال المتعمد، والهدر الواضح لمناجم الذهب في قمامتنا ومخلفات مزارعنا.

ماذا فعلنا في مخلفات أسواقنا ومنازلنا ومدارسنا ومصانعنا وفنادقنا ومصحاتنا وبقايا ولائمنا وحفلات أفراحنا وأتراحنا؟!

كما قلت سابقًا الفلاح العربي والمسلم منذ الزمن القديم كان يجمع المخلفات في كومة حيث تقوم البكتيريا والفطريات والأكتينوميسيتات والحشرات بتحويل كل هذه القمامة إلى سماد عضوي ينقله الفلاح إلى الحقل ويسمد به المزروعات.

أين مخلفات نبات الأرز والقطن في مزارع الدول العربية؟!

تحرق في بعض بلداننا وتسبب تلوثًا مخيفًا للبيئة وتهدد الصحة العامة للناس.

هذا درس من أسرة سعيد في التراث العربي الإسلامي والمنشور في كتاب بخلاء «أو ظرفاء» الجاحظ.

أين دور نسائنا وخدمنا في تصنيف وتدوير مخلفات منازلنا؟

أين دور المعلمين والمعلمات في التربية البيئية لأبنائنا؟!!

أين نحن من هذا الموقف التربوي التعليمي التعلُّمي الرائع لإحدى الأسر الإسلامية في الزمن السابق؟!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٤ – الأربعاء ٠٦ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ٢١ رمضان ١٤٣٩هـ