أنجبت الحضارة الإسلامية آلاف العلماء والتربويين والفقهاء والمبدعين والمفكرين الذين تركوا لنا ثروة علمية يتيه بها الزمان في كل مجال، ملأت مؤلفاتهم مكتبات العالم، وقامت الحضارة الإنسانية من بعدهم على بقايا مؤلفاتهم التي سلمت من الحرق والإهمال والتغييب، ومن بين هؤلاء العلماء يقف عبدالله بن المبارك شامخًا في حدائق الحضارة الإسلامية فهو القائل: كن عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا أو محبًا ولا تكن الخامس فتهلك، إنها وصية لو عمل بها كل مسلم لعدنا إلى سابق عهدنا العلمي عندما ألف المعلم محمد البنا الرجل البناء موسوعة في معالم البنيان.

وألف القزويني وهو رجل فسخاني كان يُملح السمك ألف كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ومؤلفات ابن القيم تملأ المكتبات.

واليوم نعيش مع بعض الكلمات والمواقف الرائعة للإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله.

الموقف الأول:

من الأجوبة السديدة ما كان ابن المبارك رحمه الله حينما قيل له: إلى متى تكتب العلم؟

قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد. [سير أعلام النبلاء، 360/8].

العبر:

يقول الدكتور عبدالعزيز الحميدي، [مرجع سابق، ج: 20. ص: 411]، يقول:

هذا مثل على فقه هذا الإمام العميق، فقد تبادر إلى ذهنه على إثر هذا السؤال الانتفاع بالعمل الذي هو ثمرة العلم، فليست العبرة بكثرة العلم، وإنما العبرة بالعمل الصالح الذي هو ثمرته الطيبة.

ففي هذه الكلمات القليلة عبرة وموعظة لطلاب العلم ليصححوا نيتهم في طلب العلم، وليختبروا أنفسهم بالعمل المترتب على العلم.

الموقف الثاني:

من كلمات ابن المبارك النيَّرة التي تعد مثلا لمنهاج أهل السنة في النقد والإصلاح قوله: (إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن) [سير أعلام النبلاء، 352/8].

وهكذا منهاج علماء أهل السنة والجماعة لا يركزون على بيان المساوئ ويلغون المحاسن وإنما ينظرون إلى الغالب على الإنسان من الحسنات والسيئات، فإذا كان يغلب عليه الخير والأعمال الصالحة وسلامة الاتجاه فإنهم يبرزون حسناته، وإن كان الغالب عليه السيئات – سواء في مجال الشبهات أو في مجال الشهوات – فإن المصلحة تقتضي عدم إبراز حسناته والتنبيه على سيئاته حتى لا يكون وجوده وسلوكه ضررًا على المجتمع سواء في مجال العلم أو في مجال العمل وخاصة إذا كان مجاهرًا بالمعاصي أو داعيًا إلى ضلالة الذي آمن به.

ولقد خالف هذا المنهاج أقوام غلب عليهم التشدد في مجال النقد، فصاروا يغضون الطرف عن محاسن أهل الصلاح والخير، ويبزون ما لهم من أخطاء قد تكون حقيقية، وقد تكون أوهامًا في أذهان هؤلاء المنتقدين ولا حقيقة لوجودها في الواقع.

كما خالف هذا المنهاج القويم أقوام تعصبوا لأهل الضلال والانحراف في مجال الشبهات، أو لأهل الغواية في مجال الشهوات، فأبرزوا محاسنهم وغضوا الطرف عن سيئاتهم التي كان لها أثر في ضلال بعض أفراد المجتمع وغوايتهم.

الموقف الثالث:

من آراء الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله التي بثها في رسالة شعرية إلى العالم العابد الرافض للجهاد الفضيل بن عياض حيث أملى ابن المبارك هذه الأبيات وأنفذها إلى الفضيل من طرطوس قال:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يُتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

قال الراوي: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبدالرحمن ونصح. [سير أعلام النبلاء، 314/8].

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في [المرجع السابق ص: 413]: في هذه الأبيات الرائعة يبين بن المبارك جانبًا من الفهم الصحيح للعبادة، فليست العبادة محصورة في الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام، ولكن العبادة الشاملة تكون أولا: بأداء الفرائض واجتناب المحارم كما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة: (وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه) [رواه البخاري].

ثم تكون بأداء فروض الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال كونها فروض كفاية، فإن فروض الكفاية أفضل من أداء النوافل، لأن فروض الكفاية تدخل في باب الفروض على العموم، لكن كونها غير متعينة على إنسان بعينه يجعل تاركها غير ملوم بتركها إذا قام بها من يكفي، ثم تأتي بعد ذلك النوافل على درجاتها المعروفة.

وابن المبارك رحمه الله في هذه الرسالة الشعرية يلوم الفضيل بن العياض على تقصيره في المشاركة في الجهاد، ويبين له أن اكتفى بالأقل حيث اشتغل بالنوافل وترك الجهاد الذي هو أعلى لأنه فرض كفاية وعندما يداهم العدو أرض المسلمين يكون الجهاد فرض عين على كل قادر عليه حتى المرأة تخرج في هذه الحالة من دون إذن زوجها والولد من دون إذن والديه حماية لديار المسلمين من الاحتلال والتدمير والتقتيل وحماية للأعراض والأموال وإزالة الدين.

وإن كان ابن المبارك قد جازف قليلا في قوله: لعلمت أنك بالعبادة تلعب، فإنه كما قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في [المرجع السابق، ص: 414]. فإنه لم يقصد وصف الشعائر التعبدية بأنها لعب، وحاشاه من ذلك فهو الذي اشتهر بالورع وكثرة الصلاة والصوم، وإنما أراد أن يقول بأن ترك الأعلى إلى ما هو أدنى يعتبر تقصيرًا، وإن كان لا يعفى من التجاوز في التعبير، ولكن ذلك يسير بجانب فضائله العظيمة.

ولقد أدرك الفضيل بن عياض خطأه وتقصيره في جانب الجهاد فبكى حينما سمع وقرأ هذه الرسالة الشعرية وقال: صدق أبو عبدالرحمن؛ أي: عبدالله بن المبارك، ونصح.

ولعل ابن المبارك حينما شدد في لوم الفضيل قد فهم أن الأمر بالنسبة إلى العلماء الذين يُقتدى بهم لا يقتصر على كون الجهاد فرض كفاية لأن العلماء إذا قعدوا تأسَّي الناس بهم فيكون الجهاد في حقهم فرض عين إذا ترتب على قعودهم ضرر على المسلمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٣ – الثلاثاء ٠٥ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ٢٠ رمضان ١٤٣٩هـ