بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا
– صنع الرجل كمية كبيرة من الجبن واستهلك كمية كبيرة من اللبن في صناعتها، ثم نقلها إلى الأرفف ليتم إنضاجها وتجفيفها, تهيأ لوضعها في الشمع المصهور لتغليفها ثم تصديرها وبيعها وتسديد ثمن اللبن وكلفة الصناعة ثم أخذ المتبقي من الثمن ليسدد ديونه، ويزوج ابنه.
– وضع العمال الجبن في مخزن التجفيف والإنضاج وبعد شهر من المتابعة فوجئ المنتج نموات فطرية خضراء قد كست الجبن من الخارج, مسك بالسكين وقطع قرصا من الجبن لبيان مدى تغلغل الفطر داخل الجبن، فوجئ بالفطر الأخضر قد غزى الجبن من الداخل بغزو فطري خطير، خرج الرجل من المخزن وهو يصرخ ويبكي ويضرب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية ملوثة غزاها العفن، هرع العمال والزوجة والأولاد إلى المكان, وجدوا الجبن الأخضر اللون خارج الأقراص وفي داخلها، خرجت الزوجة تولول وتلطم والعمال يضربون كفا على كف، ضاع المجهود، وخسرنا الوقت والجهد والمال.
– بحث العمال في أدوات وأواني الصناعة والبسترة ليرو السبب والخلل الذي تسبب في هذه الكارثة، وجدوا احد أواني نقل اللبن بعد البسترة مليء بنفس اللون وبنفس الفطر، القوا اللوم على عامل تنظيف وتعقيم الأواني والأدوات، توجه إليه صاحب المصنع وقال له خربت بيوتنا وحطمتنا بإهمالك وانشغالك أثناء العمل بمشاغل أخرى، صمت العامل صمتًا طويلاً وبكى فقد قرر صاحب المصنع الاستغناء عنه واستبداله بمن هو أأمن وأخلص وأمهر منه.
– في هذه الأثناء كان ابن صاحب مصنع الجبن يفحص الأقراص، تناول قطعة ملوثة بالفطر ووضعها في فمه فكانت المفاجأة غير المتوقعة هو الطعم المميز واللذيذ والرائحة المميزة والطيبة لهذا الجبن المصاب بالفطر.
– نادى الابن على والده ووالدته والعمال والعامل المتسبب في تلوث اللبن قال لهم تعالو المفاجأة في انتظاركم، أعطى كل واحد منهم قطعة من الجبن الملوث، تردد كثير منهم في وضع الجبن في فمهم، بادر الابن بأكل قطعة كبيرة من الجبن، تشجع الجميع وأكلوا الجبن، فوجئوا بالطعم اللذيذ والرائحة المميزة الطيبة.
– قرر الوالد أن يأخذ قرصا من الجبن إلى مختبر الكائنات الحية الدقيقة في قسم الجودة وتصريح البيع، تم فحص العينة وكانت المفاجأة إصابتها بفطر البنسيليوم روكفوردياي Penicillium roqfordii، توجه صاحب المصنع إلى مختبر الصحة العامة بوزارة الصحة لمعرفة مدى ضرر الجبن المحتوي على المواد الأيضية التي أفرزها الفطر داخل الجبن حتى يقرروا إعدامها، وقف صاحب الجبن كئيبًا خائفًا حزينًا وهو يدعو الله أن يسترها معه، كانت المفاجأة أن استخرج المسؤولون في المختبر شهادة صحية بأن هذا الجبن لا ضرر منه على صحة الإنسان وأنه يحتوي أحماضًا عضوية ثلاثية الكربوكسيل وفيتامينات مفيدة للإنسان.
– فرح صاحب الجبن فرحًا شديدًا، عرض الجبن في قطع صغيرة، مغلفة بأغلفة جميلة وقام بدعاية عامة للجبن الجديد لذيذ الطعم، طيب الرائحة المفيد لصحة الإنسان المحتوي على أحماض عضوية ثلاثية الكربوكسيل غالية الثمن، قليلة الوجود في الجبن غير المحتوي على نفس الفطر، عملت الدعاية عملها في المستهلكين، وتزاحم الناس على منافذ البيع لتذوق الجبن الجديد النادر والمفيد، جاءت العروض لشراء كمية الجبن المحتوية على فطر البنسيليوم روكفوردياي بأثمان غالية.
– حضر باحثو الفطريات من أحد مختبرات الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبيولوجي) وأخذوا عينة من الجبن المحتوي على الفطر، عزلوا الفطر في أجواء معقمة، نقوا الفطر من التلوث البكتيري والفطري، أرسلوا الفطر إلى معهد تسجيل الفطريات، سجل الجبن باسم صاحب المصنع، وحصل على براءة اختراع وظل لسنوات طويلة هو المنتج الوحيد لهذا الجبن المفيد واللذيذ.
– تغيرت أحوال صاحب المصنع المادية، وأحوال العمال، وتم إرجاع العامل إلى العمل ورفعت الرواتب، وتم إنشاء وحدة عزل وتعقيم وحقن للفطر في اللبن المعد لصناعة الجبن بطريقة علمية تحافظ على السلالة الفطرية المسجلة، وتمنع التلوث البكتيري والفطري والفيروسي والحشري.
– انتشر الجبن المعفن الثمين في أنحاء العالم، جاءني زميل لي عام 1972م يحمل قطعة من الجبن غالي الثمن اشتراه من أحد المحلات الكبرى المشهورة في القاهرة، فوجئ بالعفن يضرب بلونه الأخضر في كل القطعة التي اشتراها، جاءني في مختبر الكائنات الحية الدقيقة الذي أعمل به في مجال البحوث العلمية بجامعة عين شمس.
– عرض علي الجبن بخوف شديد، وبندامة على المبلغ الكبير الذي دفعه في تلك القطعة الصغيرة من الجبن المغلف بغلاف معدني أصفر وجميل، قال انظر يا دكتور نظمي هذا العفن وما رأيك العلمي، لقد اشتريت هذا الجبن بمبلغ كبير.
تبسمت وقلت له: ماذا تقول في هذا الجبن، قال جبن فاسد وملوث.
قلت له: هل ستأكله أم ماذا ستفعل فيه؟
قال القيه في القمامة أو أرجعه للمحل الذي اشتريته منه.
قلت له: لن يقبل منك
قال: لماذا؟
قلت له: إن هذا الجبن من دون هذا العفن الأخضر لا قيمة عالية له.
أخذت قطعة من الجبن وأكلتها أمامه.
قلت: إنها لذيذة وشهية ومفيدة.
فرح زميلي تخصص الجيولوجيا وأخذ باقي الجبن ليتم إفطاره.
قال لي: بعد الإفطار سأحضر إليك لتعطيني فكرة عن هذا الفطر وهذا الجبن المميز المعفن غالي الثمن.
قلت له: على الرحب والسعة.
جاءني بعد الإفطار يحمل كوبًا من الشاي.
قال أنه: مستعد لمعرفة الكثير عن هذا الفطر.
قلت له: هذا الفطر نوع من الأعفان الفطرية التي كتبت عنها في كتابي الأعفان في خدمة الإنسان، وهذه نسخة من الكتاب كتبت عليها إهداء لك وفيه كل التفاصيل.
– هذا الفطر من الفطريات الزقية Ascomycotina- أو Ascomycetes التي تتميز بإنتاج ثمار زقية متعددة الأشكال تحتوي أكياسًا (أو قربًا أو زقوقًا) جرثومية، كل زق يحتوي ثمانية جراثيم زقية، وينتمي إليها جنس البنسيليوم Penicillium، المحتوي على العديد من الأنواع منها هذا الفطر الذي نمى على الجبن كما بينا سابقًا، يعطى الفطر غزلاً (خيوطًا) فطريًا مقسم بجدر عرضية على سطح الوسط الغذائي الذي نمت عليه جراثيم الفطر المسماة بالكونيديات، وهي محمولة على حامل كونيدي ليكون تركيبًا مكنسي الشكل، ينتشر الغزل الفطري ويفرز الإزيمات المحللة للمواد الغذائية معقدة التركيب ليحولها إلى مواد بسيطة التركيب يمتصها الفطر إلى داخل خيوطه الفطرية، ويفرز الفطر الأحماض العضوية ثلاثية الكربوكسيل المفيدة والتي أعطت الجبن الطعم المميز.
– وعندها تتزاوج الخيوط الفطرية المتجاورة، يعطي الفطر الجراثيم الزقية قي داخل الجسم الثمري، الذي يعطي الأكياس الزقية المحتوية على الجراثيم الزقية التي تعيد دورة الحياة.
– وهكذا حول هذا الفطر مجرى حياة الكثير من الناس، حيث يستخدم في إنتاج الدهن من المخلفات الصناعية، وإنتاج البروتين، والأحماض العضوية ثلاثية الكربوكسيل ومنها حمض الستريك، والهرمونات، والمضادات الحيوية التي غيرت مجرى العمليات الجراحية وحماية الإنسان من التلوث الميكروبي.
إنه قسم الأعفان من الفطريات والتي تنظف البيئة من المواد الضارة والمعفنة، وسبحان القائل «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى طه» (50).
وقال تعالى: «هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ لقمان (11)».
نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٦٥٩ – الجمعة ٥ فبراير ٢٠٢١ م، الموافق ٢٣ جمادى الثاني ١٤٤٢ هـ