بقلم: د. نظمي خليل أبوالعطا

– من يقرأ السور المكية يجد المواجهة واضحة بين التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، وقد جاءت الآيات بالأدلة العلمية في مقاطع قصيرة سريعة الإيقاع قوية المعنى تضرب العقل بمطارق إيمانية سريعة وقوية، قال تعالى في سورة عبس: (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ إلى طعامه(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً(29) وَحَدائِقَ غُلْبًا(30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) عبس (24-32).

 

– قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن: (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ إلى طعامه أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا)، أي أنزلنا المطر على الأرض بكثرة (ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ) للنبات (شقًّا فأنبتنا فيها) أصنافًا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة والأقوات الشهية (حبًّا) وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها (وَعِنَبًا وَقَضْبًا) وهو القت (وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً)، وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها (وَحَدائِقَ غُلْبًا)، أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاكهة ما يتفكه فيه الإنسان من تين وعنب وخوخ ورمان وغير ذلك، والأب ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال: (مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ): التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم، أوجب له ذلك شكر ربه وبذل الجهد في الإنابة إليه والإقبال على طاعته والتصديق للأخبار) انتهى.

– ونحن نقول وبالله التوفيق:

– بدأت الآيات بتوجيه الإنسان إلى النظر إلى طعامه نظرة عقلية علمية فاحصة متدبرة وتقصي مصدره والعوامل المؤثرة في إنتاجه، وبدأ الله تعالى بالعامل الأهم في الحياة وهو الماء الذي بغيابه تغيب الحياة ويتعذر إنتاج الطعام بمختلف أنواعه وأصنافه المتنوعة والمتباينة والمهمة ثم قال: (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا)، وهذا الشق والتفتيت يحتاج إلى صب الماء صبًا وإلى العوامل البيئية الفيزيائية الحرارة والبرودة والكيمائية من أحماض ومذيبات، وفطريات منتجة للأحماض، وأشنات وحزازيات وتريديات نباتية، ثم نباتات عليا ترسل جذورها في الأرض وتشققها وبكتيريا وديدان حلقية وأوليات وحيوانات تحفر الأرض وتفتتها وتهيئها لإنتاج الغذاء للإنسان والحيوان والكائنات الحية، وبعد أن تتهيأ الأرض وتتحول إلى تربة زراعية خصبة بالعوامل السابقة تكون صالحة لإنبات الحبوب والبذور والدرنات والبصلات والكورمات والريزومات وغيرها.

– (وَعِنَبًا وَقَضْبًا): العنب للإنسان يتغذى على ثماره وأوراقه ويحتطب بسيقانه ويزداد المحتوى العضوي للتربة بجذوره وسيقانه وأوراقه المتحللة، والقضب: وهو العلف الأخضر الذي يتغذى عليه الحيوان فينتج الغذاء الحيواني من اللبن واللحم والشحم والسمن والزبد والجبن (وزيتونا) لإنتاج الزيت والخشب والأكسجين وتثبيت الطاقة الشمسية (ونخلا) لانتاج المواد السكرية والألياف والحطب والخوص المتعدد المنافع والجمار والجذوع والجريد المستخدم في شتى الأغراض (وَحَدائِقَ غُلْبًا) كثيرة الأشجار متعددة المنافع وإنتاج الغابات الكثيفة الأشجار، المهمة لتنقية البيئة من الكميات الزائدة من ثاني أكسيد الكربون، والمنتجة للأكسجين والأخشاب.

– (وَفاكِهَةً) متعددة الأجناس والأنواع والأصناف المختلفة المنافع تؤكل طازجة ومصنعة ويستخرج منها السكريات والألياف وكل المنافع (وَأَبًّا): وهو ما تعلف به البهائم وترعاه الحيوانات المختلفة وتدوسه لتحول بقاياه إلى سماد عضوي مهم ومفيد لتخصيب الأرض وتسميدها والاستغناء عن الاسمدة المصنعة كيماويًا ذات الآثار الجانبية المضرة بالإنسان والحيوان والبيئة.

– عجيب أن يبدأ القرآن الكريم في العصر المكي بطرح هذه الموضوعات العلمية للحوار والنقاش والبحث والدراسة في وقت لم يكن الإنسان ينحى هذا المنحى العلمي البحثي واستخدام الأدلة العلمية في بيان المقدرة الإلهية وطرح قضايا جديدة على العقل البشري وربط العوامل المهمة في الإنتاج النباتي والحيواني بأسلوب علمي منطقي. يبدأ بالتفكير في الطعام الذي نأكله، وارتباط هذا الطعام بالأرض الزراعية المقننة والصالحة للإنبات وإنتاج الحبوب أصل الغذاء للإنسان والحيوان. وهذا ترتيب علمي عجيب بدأ بالماء، ثم شق الأرض، ثم الإنبات وإنتاج الأجناس المختلفة من النبات، هذا ترتيب معجز لا يقدر عليه إلا العليم الخبير الذي يعلم هذا الترتيب العلمي البعيد عن العشوائية والجهل، وبذلك تصبح الإشارات العلمية في هذه الآيات القرآنية من الأدلة القاطعة على ألوهية الآيات القرآنية، ومن هنا يتضح لنا أهمية التفسير العلمي للإشارات الكونية في الآيات القرآنية من قبل المختصين، كلٌّ في مجال تخصصه العلمي وفق الضوابط التي وضعها المفسرون.

– القرآن الكريم يستخدم طريق الوحي الغيبي المبين للغيبيات من وجود الله تعالى وقدرته، والبعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار والملائكة والجن، والطريق الثاني هو طريق الآيات الكونية من كواكب ونجوم وكائنات حية وظواهر كونية للدلالة بالمحسوس على صدق غير المحسوس.

– علينا قراءة القرآن الكريم قراءة تدبرية علمية شرعية تبني الإيمان على الأدلة الغيبية والأدلة الكونية وهذا ما يميز العقيدة الإسلامية المبنية على الآيات الغيبية والآيات الكونية أي آيات النقل وآيات العقل، وحث الله تعالى المسلمين على التفكر والتدبر والتعقل والتعلم وبذلك تتميز عقيدة المسلم بالوضوح والبعد عن الفلسفات الغامضة والمتناقضة، فالله تعالى في العقيدة الإسلامية واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، صاحب الخلق والأمر ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار خلق كل شيء فقدره تقديرًا سبحانه أعطى لكل شيء خلقه وماهيته اللازمة لحياة المخلوق ثم هداه لما يصلح عليه حياته واستخدام نعم الله عليه.

– المسلم يعلم من أين أتى وما المطلوب منه في هذه الحياة وإلى أين هو ذاهب وما سيحدث له في الآخرة ووقائع البعث والحساب والمصير الذي سيؤول إليه.

– وقد جعل الله تعالى الدنيا مزرعة للآخرة وخلق ما فيها للإنسان واستخلفه في الأرض وبين له الحلال والحرام وأعلمه أنه مسؤول أمام الله عن تعمير الأرض واستغلال نعمها بالعمل الأحسن والطرائق العلمية البعيدة عن العشوائية والخرافات التي أتاهت الأمم السابقة بعد اتباعهم لأهوائهم وبعدهم عن منهاج الله سبحانه وتعالى.

كل ما ورد في آيات سورة عبس السابق ذكرها كلها أدلة علمية تدلل دلالة قاطعة على ألوهية وربانية الآيات القرآنية. والحمد لله رب العالمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٦١١ – الجمعة ١٨ ديسمبر ٢٠٢١، الموافق ٣ جمادى الأول ١٤٤٢ هـ