عندما وصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة مكث في بيت أبي أيوب الأنصاري قرابة سبعة أشهر حتى تم بناء مسجده صلى الله عليه وسلم وانتقل إليه، كما قال الدكتور صفوت خليلوفيتش في السيرة النبوية في ثوبها الجديد (ص231).

وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار على المواساة وكان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين، وكان هذا الإخاء أساسًا لإخاء إسلامي عالمي فريد من نوعه، ومقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة، تنطلق لصياغة عالم جديد قائم على عقائد صحيحة وأهداف صالحة منقذةٍ للعالم من الشقاء والتناحر والانتحار (والعصبية العرقية الجاهلية)، وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخاء المعنوي والعمل المشترك، وكان هذا الإخاء المحدود بين المهاجرين والأنصار طليعة وشريطة الاستئناف في حياة جديدة للعالم والإنسانية، لذلك خاطب الله تعالى هذه (الجماعة) البشرية في مدينتهم الصغيرة بقوله: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» الأنفال: 73. (السيرة النبوية أبو الحسن الندوي (ص198) بتصرف.

– واستغل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفترة في تنظيم مجتمع المدينة من الداخل بكتابة نظام (للمواطنة) يحمي حقوق المهاجرين والأنصار من جهة ومن غيرهم في المدينة من اليهود والمشركين من جهة أخرى (بوثيقة المدينة) أو ميثاق المدينة، وكانت كتابتها في السنة الأولى بعد الهجرة، تحتوي (تلك) الوثيقة على قواعد محددة لأفراد المجتمع (المواطنين) الذي اتصف بالتعددية الدينية والثقافية، وتعتبر هذه الوثيقة الأولى من نوعها في تاريخ البشرية وأهم ما جاء في الوثيقة احترامها لليهود ولحقهم في ممارسة دينهم وتراعي الوثيقة كل العقائد الدينية وتضع أسسا واضحة للمشاركة السياسية وتعتبر الوثيقة نقطة تحول وبداية صفحة جديدة في التاريخ الإسلامي وهي في ذات الوقت (أنموذج) للجمع بين النواحي الروحانية وكل العوامل الأخرى في المجتمع (وتحتوي الوثيقة على سبعة وأربعين بندًا في المواطنة الصالحة). (المرجع قبل السابق (ص 232) بتصرف قليل).

– وقد وثق القرآن الكريم العلاقة بين المسلمين والمسلمات في قائمة من المساواة الرائعة بين المواطنين الصالحين في المجتمع المسلم فقال تعالى إن:

– (المسلمين والمسلمات).

– (والمؤمنين والمؤمنات).

– (والقانتين والقانتات).

– (والصادقين والصادقات).

– (والصابرين والصابرات).

– (والخاشعين والخاشعات).

– (والمتصدقين والمتصدقات).

– (والصائمين والصائمات).

– (والحافظين فروجهم والحافظات).

– (والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات).

– «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا». الأحزاب: 35.

– إنه تجمع سلوكي إيماني للمواطنين الصالحين في المجتمع المسلم في القرآن الكريم.

– قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم في تفسير كلام المنان.

– (إن المسلمين والمسلمات) وهذا في الشرائع الظاهرة إذا كانوا قائمين بها.

– (والمؤمنين والمؤمنات)، وهذا في الأمور الباطنة من عقائد القلب وأعماله.

– (والقانتين): أي المطيعين لله ورسوله.

(والقانتات الصادقين) في مقالهم وأفعالهم.

– (والصادقات والصابرين): على الشدائد والمصائب.

– (والصابرين والخاشعين): في جميع أحوالهم خصوصًا في عباداتهم ولا سيما في صلواتهم.

– (والخاشعات والمتصدقين) فرضًا ونفلًا.

– (والمتصدقات والصائمين والصائمات) شمل ذلك الغرض والنفل.

– (والحافظين لفروجهم): من الزنا ومقدماته.

– (والحافظات والذاكرين لله كثيرًا) أي في أكثر الأوقات وخصوصًا أوقات الأوراد المقيَّدة كالصباح والمساء وأدبار الصلوات المكتوبات.

– (والذاكرات أعد الله لهم): أي لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة والمناقب الجليلة التي ما بين اعتقادات وأعمال قلوب وأعمال جوارح وأقوال لسان ونفع متعدِّ وقاصر وما بين أفعال الخير وترك الشر الذي من قام بهن فقد قام بالدِّين كله ظاهره وباطنه بالإسلام والإيمان والإحسان، فجازاهم على (أعمالهم) بالمغفرة لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. (وأجرًا عظيما): لا يقدر قدره إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، انتهى.

إنه تجمع بشري فريد يجمع بين خيري الدنيا والآخرة في مواطنة فريدة تساوي بين الرجال والنساء المساواة الحقيقية التي تكفل لكل منهما حقوقه كاملة غير منقوصة، وهي حقوق موثقة في أعظم وأشرف دستور عرفته البشرية القرآن الكريم الذي لا يتغير ولا يتبدل تبعًا للأهواء والمصالح المادية الدنيوية للمتنفذين.

– هذا التجمع الفاضل أنبتت الأيام والممارسات والوقائع صلاحيته لإقامة مجتمع العدل والمساواة في الدنيا قبل الآخرة.

– هذا التجمع الذي لا يطغى فيه الذكور على الإناث، ولا تستغل فيه الإناث للمتاجرة في أنوثتهم ولا يحرمون من حقوقهم لكونهم إناثًا، إنها مساواة عجيبة بين المواطنين في مجتمع يحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين والأكثرية غير الطاغية على الأقلية، مجتمع نظمته وثيقة المدينة ونظمه القرآن الكريم الدستور الإلهي المعجز.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٥١٢ – الجمعة ١١ سبتمبر ٢٠٢٠ م، الموافق ٢٣ محرّم ١٤٤٢هـ