يحتاج بناء وقيام الدولة القوية إلى قيادة واعية وشعب مخلص وأخلاق وقيم تساعد على الحفاظ على العلاقات بين الأفراد والقيادة. وقد توفرت في المدينة المنورة كل عوامل قيام دولة الإسلام القوية. من حيث الأرض محددة الحدود والحاكم والشعب والدستور والقوة والاقتصاد.

– وقد تكوّن المسلمون في المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار. والمهاجرون هم المسلمون الذين هجروا وطنهم مكة وفروا بدينهم إلى المدينة المنورة بعد أن استضعفوا واضطُهدوا وأوذوا وحوربوا وقتل منهم من قتل تحت التعذيب.

قال الله تعالى عنهم: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» النحل: 41-42.

حيث يخبر الله تعالى بفضل الممتحنين «الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ»؛ أي: في سبيله وابتغاء مرضاته «مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا» بالأذية والمحنة من قومهم، الذين فتنوهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن، فذكر لهم ثوابين: ثوابًا عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيء الذي رأوه عيانًا بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم وافتتحوا البلدان وغَنِموُا منها الغنائم العظيمة فتموَّلوا وأتاهم الله في الدنيا حسنة «وَلأجْرُ الآخِرَةِ» الذي وعدهم على لسان رسوله خير و«أَكْبَرُ» من أجر الدنيا كما قال تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ» التوبة: 20-21. وقوله «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف أحد.

– وقال تعالى: «فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ» آل عمران: 195.

– هذه مكانة المهاجرين المجاهدين عند الله.

– وقد اتخذ المسلمون من هجرتهم تأريخًا للإسلام، وهكذا ارتبط التاريخ عند المسلمين بهجرة المهاجرين التي أصبحت حدًا فاصلاً بين ضعف المسلمين وقوتهم وبناء دولتهم.

– وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين إخوانهم الأنصار الذين اندمجوا وكونوا المجتمع المسلم في دولة الإسلام.

 أما الأنصار: لما اجتمعت الأوس والخزرج في العقبة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبادة بن عبادة الخزرجي: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم.

قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً، أسلمتموه – فمن الآن-، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه إليه على نهكة الأموال (أي: نقصها) وقتل الأشراف – فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة-.

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟! قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.

– وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال سعد بن عبادة على لسانهم يوم بدر (فوالذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناه، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى ترك الغماد لفعلنا) رواه مسلم.

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بعد أن بايعوه (أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فلما تخيَّروهم قال للنقباء (النواب): أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي.

نقباء الخزرج:

1- سعد بن زرارة بن عدس.

2- سعد بن الربيع بن عمرو.

3- عبدالله بن رواحة بن ثعلبة.

4- رافع بن مالك بن العجلان.

5- البراء من معرور بن صخر.

6- عبدالله بن عمرو بن حرام.

7- عبادة بن الصامت بين قيس.

8- سعد بن عبادة بن دليم.

9- المنذر بن عمرو بن خنيس.

نقباء الأوس:

أسيد بن حضير بن سماك.

سعد بن خيثمة بن زبير.

3- رفاعة بن عبدالمنذر بن زبير.

– وهكذا اختير وانتخب مجلس نواب الشعب عن الأنصار.

– واستقبل الأنصار المهاجرين وفتحوا لهم بيوتهم وآخى المصطفى صلى الله عليه وسلم بينهم في وحدة وطنية عجيبة تضاءلت أمامها الأموال والمساكن والمناصب وقال الله تعالى عنهم: «وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» التوبة: 100.

– وقال تعالى: «لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ» التوبة: 117. (مواقف سياسية من سيرة خير البرية، نظمي خليل أبو العطا، دار السلام للطباعة والنشر، مصر: القاهرة) (ط1) (ص23) (2007م).

– وتتجلى مكانة الأنصار في حديث القرآن عنهم. فهم مع المهاجرين –والذين اتبعوهم من الذين رضى الله عنهم -، وأعد لهم جنات يعيشون فيها حياة خالدة ينعمون فيها برزق كريم.

– وقد اشترك المهاجرون والأنصار في بناء الدولة الإسلامية وتأمين حدودها، وتدبير متطلباتها المالية والاقتصادية وبنو السوق للتجارة والمسجد للصلاة والاجتماع وعقد المعاهدات والإعداد للدفاع عن الدولة الإسلامية، وحاربوا المرتدين وجمعوا القرآن الكريم، وفتحوا البلدان، وحاربوا الطواغيت والمشركين والكفار، وتحملوا إيذاء المنافقين، وخرجوا في سبيل الله مجاهدين بأنفسهم وأموالهم، وتركوا بيوتهم وبلدانهم وعزوتهم وساروا حتى اليمن والمجر والصين وإفريقية في فتح عجيب، وقاتلوا الفرس والروم أعظم قوتين في أيامهم ولم تمض سوى أيامًا معدودة حتى ترامت أطراف دولة الإسلام، وأسسوا أعظم دولة في التاريخ البشري تجمع بين خيري الدنيا والدين دولة لا تعرف الكهنوت والدروشة ولا تعرف العَلْمانية (بفتح العين) أو فصل السياسة عن الدين أو إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بل الكل لله كما قال تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أول الْمُسْلِمِينَ» الأنعام: 162-163.

– وقد أعزنا الله بالإسلام وعندما طلبنا العزة في العَلْمانية (بفتح العين) والشيوعية تخلفنا وأصبحنا في ذيل الأمم علميًا واجتماعيًا وسياسيًا وزراعيًا وصناعيًا وطمع فينا بنو صهيون وقسم الصليبيون ديارنا وأبعدوا الإسلام عن الحياة ولن يتصلح حالنا إلا بما انصلح به حال المهاجرين والأنصار الذين تحولوا من الاستضعاف إلى العزة والتمكين، ومن الحروب الأهلية والتنازع والفشل إلى المحبة والأخوة الإسلامية.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥٥٢ – الجمعة ١ مايو ٢٠١٥ م، الموافق ١٢ رجب ١٤٣٦ هـ