– يخرج قارون على قومه في موكبه المهيب المزين بالزينة المبهرة ويحيط به العبيد وتتمخطر به الخيول وتزغرد النساء ويصفق الأطفال على جانبي الطريق وهم في ذهول مما يرون، وتطير قلوب فريق من قومه وتتهاوى نفوسهم وتملأ الحسرة قلوبهم يتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ولقلة علمهم وجهلهم المُرَكَّب ولقراءتهم الخاطئة للأحداث يظنون أنه أوتي حظًا عظيمًا يشتهاه المحرومون الجاهلون، ويتمناه كل مفتون.

– على حين يقف العالمون أمام نفس الموكب ولعلمهم يقرؤون المَشَاهد قراءة علمية صحيحة فيستيقظ الإيمان في قلوبهم فيعتزون به على موكب الفتنة، موكب المال والزينة والخدم والدواب ويقومون بواجبهم الشرعي والعلمي والنفسي والاجتماعي والتاريخي فيذكّرون إخوانهم المبهورين بالموقف، المأخوذين بالمادة، يذكرونهم في سلوك المؤمنين العارفين ويعلمونهم بحقيقة الأمور. قال تعالى واصفًا موكب الفتنة: «فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيتَ لَنَا مِثلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللَّهِ خَيرٌ لِّمَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ» القصص: 79-80.

– يقول ابن كثير رحمه الله في تفسر ذلك أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه (ودوابه) فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها تمنوا لو كان لهم مثل الذي أعطى (قارون) قالوا «يَا لَيتَ لَنَا مِثلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»: أي ذو حظ وافر في الدنيا.

– فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا: «وَيلَكُم ثَوَابُ اللَّهِ خَْرٌ لِّمَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ‭}‬ القصص: 80. أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون، كما في الحديث الصحيح، (أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، واقرأو إن شئتم «فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» السجدة: 17 وقوله تعالى: «وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ» القصص: 80.

– الصابرون على فتن الدنيا سواءً بالفقر أو الغنى.

– الصابرون على ابتلاءات الدنيا وفتن المال المحيطة بهم من كل جانب.

– قال السدي: وما يلقى الجنة إلا الصابرون، كأنه جعل ذلك من تمام الذين أوتوا العلم، قال ابن جرير: وما يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون على محبة الدنيا، الراغبون في الدار الآخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعًا من كلام أولئك وجعله من كلام الله وإخباره بذلك.

– قال صاحب تفسير الظلال – رحمه الله-: وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الدنيا وقفة المأخوذ المنبهر المتهافت.

– ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله والاعتزاز بثواب الله، والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة الدنيا من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى (المسمومة) ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا الطريق الدنس الذي خاضوه ولا إلى الوسيلة التي اتخذوها.

– أما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة في نفوسهم، ففي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفس وأكبر من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعًا، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم: «الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ» القصص: 80. العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ» القصص: 80.

– وقال – رحمه الله – ثواب الله خير من هذه الزينة وما عند الله خير مما عند قارون والشعور على هذا النحو درجة عالية لا يلقاها إلا الصابرون.

– الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم.

– الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها.

– الصابرون على الحرمان مما يشتهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان، انتهى.

– والآن وفي حياتنا المعاصرة ترجح كفة ميزان الحياة للذين يريدون الحياة في ظل عولمة مادية دارونية فرويدية عَلمانية (بفتح العين) ليبرالية تريد أن تجتاح العالم والناس تحسد القارونيين المفسدين على ما أتاهم الله من بنايات شاهقة، ومساكن فخمة، وسيارات فارهة، وأموال طائلة وخدم وحشم وعبيد وزينة وجمال أجسام فنراهم يسارعون في جمع الأموال بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ويمنعون عباد الله حقوقهم المشروعة، ويفتنونهم بأموالهم وزينتهم وتكبرهم ومظاهرهم الكاذبة وترى من يكذب ويتظاهر ويقلد هذه الفئة القارونية ويرفعها إلى درجة عالية ولكن لله عباد فُطَّنٌ متواضعين متصدقين يخافون الحرام ويخشون الله رغم ثرائهم ويرجون الثواب من الله «وَعِبَادُ الرَّحمنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأرضِ هَونًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا» الفرقان: 63.

– وإذا فتن الجاهلون الناس كانوا هم في جانب العلم والقيم والفضيلة هؤلاء هم الصابرون المصلون العالمون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بالمعروف.

– وعندما تشتد الفتنة وتستعر وتصبح فوق احتمال البشر يأمر الرحمن الرحيم بإنقاذ الناس من الفتنة «فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرضَ» القصص: 81. ابتلعته الأرض، وابتلعت داره، وهوى واختفى في باطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا، ذهب ضعيفًا عاجزًا لا ينصره أحد وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت جُهال الناس وردتهم الضربة القاضية إلى الله، وكشفت عن قلوبهم أكنَّة الغفلة والضلال.

«وَأَصبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالأمسِ يَقُولُونَ وَيكَأَن اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ».

– وقفوا يحمدون الله أنه لم يستجب لما تمنوه بالأمس.

ويأتي الاستنتاج العام «تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ» القصص: 83.

-ما أحوجنا إلى تعليم وتعلم هذا الموقف القرآني الذي يعطينا الدروس العملية النافعة في فهم الحياة الدنيا وما يجب أن نعمل فيها لنفوز الفوز العظيم في الحياة الحقيقية والباقية في جنة النعيم.

– المصدر: مواقف تربوية من القرآن الكريم والسنة النبوية، نظمي خليل أبو العطا موسى،-سلسلة مطبوعات الإمام الشافعي للدراسات الإسلامية (2) (ط1)، (ص 88) (2011م).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٤٧٠ – الجمعة ٣١ يوليو ٢٠٢٠ م، الموافق ١٠ ذو الحجة ١٤٤١هـ