بدأت قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا بتخليف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول توبتهم لتخلفهم عن المعركة في يوم شديد الحر، بعدما طابت الثمار، ونظرت إليها العيون وركنت إليها النفوس واشتاقت إلى قطفها.

– بعض الصحابة رضوان الله عليهم يجلسون في بساتينهم وقد رُطبت بالمياه، وحُببت بالظلال، وزينت بالمال والأولاد وبجوارهم نساؤهم، تأتي الأخبار إلى المدينة متواترة متسارعة متلاحقة. العدو الرومي يُعدّ العدة للميل على المدينة المنورة ميلة واحدة لتفقدها دينها وأمانها ووحدتها.

الصراع بين الحق والباطل دائم من يوم أن خلق آدم إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض من عليها.

جماعة الحق وعصابة التوحيد في الأرض بالمدينة المنورة، الكفار في كل مكان يدبرون أمورهم لاستئصال شأفة المؤمنين وقطع دابرهم والقضاء على نبيهم، المنافقون يعملون في الظلام وبين الصفوف، ويعدون العدة لإخراج المسلمين نهائيا من المدينة، الشيطان يجلب على الكافرين والمنافقين بخليه ورَجْله.

– يتلقى المصطفى صلى الله عليه وسلم الأخبار من الأنباط (الفلاحين) والتجار والعيون ويحللها ويفرض لها الفروض ويعدّ لها العدة وهو يعلم أن القتال إنما فرض على المسلمين وهو كره لهم. الأموال قليلة، الظهور الخاصة بالركوب شحيحة، الرمال ملتهبة، والشمس قاتلة والحر شديد.

– القيادة الإسلامية العامة بنبوتها وفراستها وذكائها وإخلاصها وحكمتها ترى أن الذهاب إلى العدو في عقر داره هو الطريق.. تتواتر الأنباء وتتأكد من استعداد العدو لغزو المدينة المنورة.

– الصحابة رضوان الله عليهم يرقبون الطرقات المؤدية إلى المدينة، الفاروق عمر يتناوب المراقبة من مكان مرتفع بالمدينة تحسبًا لقدوم العدوّ فجأة.

– المنافقون يبنون مسجد الضِّرار إرصادًا وتفريقًا للمؤمنين.

– يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بجهة القتال والخروج، يطلب من الصحابة التجهز ويوضح لهم ظروف المعركة.

– الجهاد في هذه الأيام فرض عين على كل قادر عليه من الشباب والشيوخ والرجال.. يسرع الصحابة إلى بيوتهم ويحضرون الأموال والمتاع، والنساء يتبرعن بالحلي والأموال.

– حركة دائبة في أسواق المدينة، المسلمون يجهزون كل ما يحتاجون إليه في المعركة وفي الطريق إليها.

– قافلة لذي النورين قوامها ثلاثمائة بعير بأقتابها (أحمالها) تحضر إليه فيقودها إلى الرسول الكريم، ومعها ألف دينار، نثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يضر عثمان ما فعل بعدها» رواه الترمذي وأحمد.

– الصدِّيق والفاروق يتنافسون، ويسبق الصديق يأتي بكل ماله، الفاروق يأتي بنصف ماله، الفاروق يتحسر ويقول في نفسه، يا ابن أبي قحافة ما سبقتك إلى خير إلا سبقتني إليه.

– البكاؤون والفقراء يبكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الظهر (ما يركبون) ليحملهم إلى المعركة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما أحملكم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا على ألا يجدوا ما يحملهم إلى المعركة وألا يجدوا ما ينفقون لخروجهم (فقه السيرة – السيوطي – دار الفكر (400).

– جاء عبدالرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة، ومحمد بن مَسْلمة، كلهم جاؤوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا (الوسق ستون صاعًا) من التمر، ويتباع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها حتى كان منهم من أنفق مُدًا (ربع صاع) أو مدين لم يكن يستطيع غيرها لم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» التوبة: 79.

– علبة بن زيد فقير الحال، تُعجزه حاله عن الخروج، يقوم الليل يصلّي ويتهجد ثم يبكي ويقول: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض (فقه السيرة محمد الغزالي – دار القلم دمشق (405).

وفي الصباح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة» – صححه الألباني.

– الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقد الاستعدادات للحرب ويعد الصحابة الكرام ويخرج بالجيش من المدينة المنورة في رجب سنة 9 هـ (الرحيق المختوم – المباركفوري – (ص 482).

ويخلف الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله، ويجعل على المدينة محمد بن سلمة الأنصاري.

– الجيش الإسلامي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أو يزيدون لا يجمعهم ديوان جامع، أعداد كبيرة ونقص في المؤن والظهور.

– طرقات المدينة المنورة مظلمة في وضح النهار لغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، ووجود المنافقين والمفتونين فيها.

– المعذرون والضعفاء يبكون في طرقات المدينة والمتكاسلون والنساء والأطفال في البيوت.

– حدثت معجزات كثيرة في طريق الجيش إلى تبوك لا يتسع المقام لذكرها.

– لما انتهوا إلى تبوك لم يجدوا هناك كيدًا ولا قتالًا، فقد رعب واختفى وتفرّق أولئك الذين قد تجمعوا للقتال.

– صالح المصطفى صلى الله عليه وسلم حاكم أيلة وعاهده.

– قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة.

– جاء المعذرون يعتذرون وجاء كعب بن مالك، وهلال ابن أمية ومرارة بن الربيع ولم يكن لهم عذر في التخلف عن الجيش والجهاد، خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل توبتهم، قاطعهم المسلمون مدة خمسين يومًا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، سجل كعب ابن مالك حالهم في حديث طويل، وتحولت المدينة من حولهم سجنًا متحركًا، حاول الأعداء ميل كعب ابن مالك فأبى. وعندما اشتد عليهم الكرب نزل قول الله تعالى بتقبل توبتهم وتصوير حالهم فقال تعالى: «لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» التوبة: 117-119.

آيات بليغة تبين محنة هؤلاء الثلاثة وكيف ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وكيف تاب الله عليهم لصدقهم وثباتهم بعد مقاطعتهم مقاطعة جماعية مدة خمسين يومًا، وتركتهم نساؤهم بأمر من رسول الله وكان هلال بن أمية قد بلغ الثمانين من عمره فأذن لزوجته أن تخدمه من شدّة ضعفه وبكائه وقد قال الله تعالى عنهم «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»، قال البعض هم هلال بن أمية ومرارة ابن الربيع وكعب ابن مالك.

– إنه تجمع الصادقين الثلاثة في مقابل تجمع المسلمين جميعًا في المدينة الذين قاطعوهم مقاطعة جماعية زلزلت الأرض من تحت أقدامهم وضاقت عليهم الدنيا وضاقت عليهم أنفسهم وعلموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، علم الله صدقهم وصدق توبتهم فتاب عليهم.

– ما أحوجنا إلى تربية جماعية نصيح فيها كالجسد الواحد والبنيان الواحد، نقاطع العصاة ولا نقف مع المخطئين والمفرطين.

إنه الجيل الذي حمل لواء التوحيد وفتح به القلوب قبل فتح البلدان، ما أعظم هذا الجيش الذي خرج في ساعة العسرة في غزوة لردع الأعداء وإرهابهم وتحذير من تحدثه نفسه يومًا أن يهاجم المدينة المنورة عرين أسود التوحيد، جند الله بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يبدلوا ولم يغيروا وظلوا على العهد حتى نشروا الدين وبنوا حضارة إسلامية يتيه بها الزمان فخرًا.. قال الله عنهم: «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَ لِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» الفتح: 29.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد :١٥٤٤٩ – الجمعة ١٠ يوليو ٢٠٢٠ م، الموافق ١٩ ذو القعدة ١٤٤١هـ