فصَّل القرآن الكريم قصة أصحاب الأيكة في سورة الشعراء في حين جاء الحديث عنهم في المواطن الأخرى قصيراً أو عارضاً في سياق أمثالهم ممن كفروا بأنعم الله وكذبوا رسله، وقد قرنهم الله تعالى في سورة (ص) بقوم نوح وعاد وفرعون وثمود ولوط وأشار (إلى تجمعهم) (بالأحزاب) وأردفهم في سورة (ق) بقوم تُبع. (معجم الأعلام (مرجع سابق) (ج1) (ص111).

وملخص ما جاء في القرآن الكريم عن أصحاب الأيكة أنهم كانوا ظالمي أنفسهم يُخسرون الكيل (الميزان)، ويجورون على حقوق المشترين، ويبخسون الناس أشياءهم وينشرون الفساد في الأرض، وعندما دعاهم نبيهم إلى الطاعة والتقوى اتهموه بأنه مسحور، وكاذب، واستنكروا أن يكون نبياً وهو بشر مثلهم، وتحدوه أن يُسقط عليهم كسفاً (قطعاً) من السماء، وكانت النتيجة أن وقع بهم عذاب عظيم أطلق عليه القرآن «عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» الشعراء (189)، هو الذي حُدد فيه يوم العذاب ففي الحجر اكتفى القرآن بالقول: « فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ» الحجر (79)، وفي سورة ص (فحق العذاب) وفي سورة ق (فحق وعيد).

وتشير قصتهم في الشعراء إلى أنهم كانوا أهل تجارة وزراعة معاً، فهم أصحاب شجر وثمر وهم أيضاً يبيعون ويشترون ويكيلون ويزنون، وهم أيضا مفسدون، يؤذون الناس، ويقطعون الطريق، ولا يرعون، حتى إنهم يتحدون الأنبياء، ولا يأبهون بعذاب الله، ولهذا كان ما وقع بهم شديداً.

والظلة هي السحابة التي أظلتهم ثم أمطرتهم ناراً، وشبيه بظلة أصحاب الأيكة ظلة بني إسرائيل، لكن هذه الأخيرة عبارة عن جبل «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» الأعراف (171). (ص111،112).

قال تعالى: «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ». الشعراء (176-190).

قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي -رحمه الله- في تيسير الكريم الرحمن (مرجع سابق) (ص698) قال: أصحاب الأيكة: أي البساتين الملتفة الأشجار، وهم أصحاب مدين، كذبوا نبيهم شعيباً الذي جاء بما جاء به المرسلون (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) الله تعالى فتتركون ما يُسخطه ويُبغضه من الكفر والمعاصي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) يترتب على ذلك أن تتقوا الله وتطيعون.

وكانوا مع شركهم يبخسون المكاييل والموازين، فلذلك قال لهم: (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أتموه وأكملوه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها ببخس المكيال والميزان (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ): أي بالميزان العادل الذي لا يميل (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي: الخليقة الأولين، فكما انفرد بخلقكم وخلق من قبلكم من غير مشاركة له في ذلك، فأفردوه بالعبادة والتوحيد وكما أنعم عليكم بالإيجاد والإمداد بالنعم فقابلوه بشكره.

قالوا له مكذبين له رادّين لقوله: (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)، فأنت تهذي وتتكلم كلام المسحور الذي غايته أن لا يؤاخذ به (ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا): فليس فيك فضيلة اختصصت بها علينا حتى تدعونا إلى اتباعك وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة، التي لم يزالوا يدلون بها ويصولون ويتفقون عليها، لاتفاقهم على الكفر وتشابه قلوبهم، وقد أجابت عنها الرسل بقولهم: (إن نحن إلا بشر منكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده) (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا جراءة منهم وظلم وقول زور، قد انطووا على خلافه، فإنه ما من رسول من الرسل واجه قومه ودعاهم وجادلهم وجادلوه، إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات ما به يتيقنون صدقه وأمانته وخصوصاً شعيباً عليه السلام، الذي يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فإن قومه قد تيقنوا صدقه وأن ما جاء به حق ولكن إخبارهم عن ظن كذبه كذب منهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ) أي قطع عذاب تستأصلنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) كقول إخوانهم: «وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» الأنفال (32). أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.

قال شعيب عليه السلام: (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ).

(فَكَذَّبُوهُ): أي صار التكذيب لهم وصفاً والكفر لهم دينًا بحيث لا تقيدهم الآيات وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، أظلتهم سحابة فأحرقتهم بالعذاب فظلوا تحتها خامدين، ولدار العذاب والشقاء نازلين (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) على صدق شعيب، وصحة ما دعا إليه، وبطلان رد قومه عليه (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

إنه تجمع أصحاب رؤوس الأموال الفاسدين المقاومين لكل ما يعطي الناس حقوقهم ويمنعهم من إفسادهم وهو تجمع المترفين الذين يحاربون كل ما يعطيهم حقوقهم ويعطي الآخرين حقوهم التي سرقت منهم ويتمتع بها المترفون والرأسماليون الجشعون المفسدون هذا التجمع مقابل تجمع المسروقين والمنهوبين والمضطهدين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٤٢١ – الجمعة ١٢ يونيو ٢٠٢٠ م، الموافق ٢٠ شوّال ١٤٤١هـ