نعيش مع هذا التجمع الإيماني الذي جعله الله تعالى بداية للحياة على الأرض بعد بداية آدم عليه السلام، ركبت هذه الجماعة سفينة النجاة من الطوفان الكبير والكرب العظيم والموت الجماعي للكافرين.

سفينة عجيبة، تُصنع في الصحراء والرمال بعيدا عن المياة والشطآن، كافية لأن تحمل فيها من كل الحياة الفطرية في المكان زوجين اثنين لتبدأ بهم الحياة الفطرية مع البداية الجديدة للحياة البشرية، هي أول غواصة في تاريخ البشرية يغمرها الموج وهي تمخر غباب الماء في ثبات واتزان عجيب ولا عجب في ذلك فقد صنعها نوح بوحي من الله وبهدى منه سبحانه.

علم الله آدم عليه السلام التوحيد الخالص فعلم آدم أبناءه وذريته ما علمه الله، وظل التوحيد يتنقل من جيل إلى جيل، ولما انحرف الناس عن الفطرة بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم وإغواء الشيطان لهم، وعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان، وقبور الصالحين بعث الله إليهم نوحًا عليه السلام ليردهم إلى الحق وعبادة الله وحده، قال تعالى: ‭}‬وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‭{‬ نوح (23).

روى البخاري في صحيحه عن تفسير الآية السابقة قال: هذه اسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت، صحيح البخاري.

قال ابن عباس: ((وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد)).

– وقد سلك نوح عليه السلام في ردَّ قومه إلى عقيدة التوحيد منهجًا فريدًا وعجيبًا، جديرًا بالتأمل والإعتبار يمكن تلخيصه فيما يلي:

– لين الكلمة، وسهولة الأسلوب، وعدم مقابلة السب والأذى بمثله قال له قومه ‭}‬إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِين‭{‬ الأعراف (10) فقال لهم نوح ‭}‬يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‭{‬ الأعراف (61-62).

– تنويعه للأساليب في الدعوة: ‭}‬قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أعلنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا‭{‬ نوح (5-9).

– ترغيبهم في مغفرة الذنوب إن هم أطاعوا دعوته وصدقوا ما جاء به ويمد الله في أعمارهم ويدرأ عنهم العذاب الذي إن لم يتجنبوا ما نهاهم عنه أوقعه الله بهم قال تعالى: ‭}‬قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إذا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‭{‬ نوح (2-4).

– كما رغبهم في سعة العيش، ويسر الحياة السعيدة وذلك بهطول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، إن هم استغفروا الله تعالى، وتابوا إليه من الشرك وجميع الذنوب قال تعالى: ‭}‬ قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا‭{‬ نوح (10-12).

– استعمال اسلوب الحوار معهم قال تعالى: ‭}‬كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ‭{‬ الشعراء (105-117(.

– وكما هو واضح من قوله تعالى: ‭}‬ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‭{‬ هود (32).

دعوتهم إلى النظر في الكون، وما فيه من نظام وإتقان وإبداع، وإلى الأنفس وما فيها من عجائب تدل على عظمة الخالق جل وعلا وأنه المستحق للعبادة وحده، قال تعالى: ‭}‬مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا‭{‬ نوح (13-20).

– وبعد أن بذل سيدنا نوح عليه السلام غاية جهده في سبيل هداية قومه وإصلاحهم وصبره وحلمه الطويل عليهم ومع ذلك كله (وما آمن معه إلا قليل).

– لجأ سيدنا نوح إلى ربه يشكو قومه: ‭}‬قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‭{‬ الشعراء (117-118(.

– وأخيرًا دعا عليهم بالهلاك قائلا: ‭}‬وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فَاجِرًا كَفَّارً‭{‬ نوح (26-27). استجاب الله لدعاء رسوله وأخبره أنه لن يؤمن من قومك سوى من آمن منهم ‭}‬وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‭{‬ هود (36).

– وأخبره أن سيغرقهم بالغرق ودله على طريق نجاة المؤمنين ‭}‬وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ‭{‬ هود (37). وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‭{‬ هود (38-39).

– انتهى سيدنا نوح من صناعة السفينة وحمل فيها من كل زوجين إثنين وركب فيها وجميع من آمن معه.

 ‭}‬فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‭{‬ القمر (11-12).

في زمن قليل جدًا تم هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين ‭}‬وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا للْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‭{‬ هود (44).

– وهكذا انتهت محنة دامت طويلاً بهلاك الكفرة المشركين الذين حادوا الله ورسوله، وعاندوا عنادًا شديدًا، وأبو التوبة والعودة إلى الله تعالى.

(منهج القرآن في دعوة المشركين، حمود بن أحمد الرحيلي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية (ج1) (ص167-179) (2004م).

– وبذلك نجا تجمع المسلمين وهلك تجمع الكافرين والحمد لله رب العالمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : 15399 – الجمعة 22 مايو 2020 م، الموافق 29 رمضان ١٤٤١ هـ