كان وحيدًا في تأييد الحق هلك الجميع ونجى الوحيد، لم يغتر بالكثرة العددية، ولم يسلك سلوك القطيع، فكر في ما آلت إليه الأمور وحيدًا في قرية ظالمة مطبقة على الظلم، رفع صوته بالحق نجاه الله وأهلك أهل القرية جميعًا، وهكذا أصحاب المبادئ السامية لا يخدعون بكثرة العصاة ولا يسيرون من دون وعي مع الهالكين بجعله الله مثلا للمؤمنين الصادقين.

قال تعالى: ‭}‬وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أصحاب الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22) ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ(23) إِنِّي إذا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسمعُونِ(25) قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون(30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ(31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‭{‬ يس (13-32).

أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك الرادين لدعوتك مثلاً يعتبرون به ويكون لهم موعظة إن وفقوا إلى الخير، وذلك المثل أصحاب القرية وما جرى منهم من التكذيب لرسل الله وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله. وتعيين تلك القرية من باب التكلف والتكلم بلا علم (وفائدة) ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذه الأمور تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح الوقوف مع الحقائق وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس ويزيد العلمُ من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل ولا حجة عليها ولا يحصل منها الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها.

والشاهد أن هذه القرية جعلها الله مثلاً للمخاطبين (إذ جاءها المرسلون) من الله تعالى، يأمرونهم بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.

(إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث)، أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من الله بهم وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم (فقالوا) لهم: (إنا إليكم مرسلون).

فأجابوهم بالجواب الذي مازال مشهورا عند من ردّ دعوة الرسل فقالوا (ما أنتم إلا بشر مثلنا) (وما أنزل الرحمن من شيء) أي أنكروا عموم الرسالة ثم أنكروا أيضًا المخاطبين لهم، فقالوا (إن أنتم إلا تكذبون).

فقال هؤلاء الرسل الثلاثة (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فلو كنا كاذبين، لأظهر الله خزينا ولبادرنا بالعقوبة (وما علينا إلا البلاغ المبين) أي البلاغ (الواضح) الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها.

– فقال أصحاب القرية لرسلهم (إنا تطيرنا بكم) أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلاَّ الشر، وهذا من أعجب العجائب أن يُجعل من قدم عليهم بأجَلّ نعمة يُنعم الله بها على العباد وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة قد قدم بحالة شر زادت على الشر الذي هم عليه واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه ثم توعدوا الرسل فقالوا: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) أي: لنقذفنكم رجمًا بالحجارة أشنع القتلات (وليمسنكم منا عذاب أليم).

فقالت لهم الرسل: (طائركم معكم) وهو ما معهم من الشرك المقتضي لوقوع المكروه (بل أنتم قوم مسرفون): متجاوزون الحد متجهمون في قولكم، فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورًا واستكبارًا.

(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) حرصًا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به وعلم ما ردَّ به قومه عليهم، فقال لهم (يا قوم اتبعوا المرسلين)، فأمرهم باتباعهم ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة.

ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه فقال: (اتبعوا من لا يسألكم أجرًا) (وهم مهتدون): لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح (الصريح) بحسنه، ولا ينهون إلا بما يشهد العقل الصحيح (الصريح) بقبحه.

فقتله قومه لما سمعوا منه وراجعهم بما راجع به (قيل) له في الحال (ادخل الجنة)، فقال مخبرًا بما وصل إليه من الكرامة (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي) (وجعلني من المكرمين) بأنواع المثوبات والمسرات، أي لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على شركهم (وغيهم وعنادهم وجهلهم).

وعاقبهم الله بقطع الرسل عنهم، وفسدهم إعلامهم الفاسد (إن كانت) أي ما كانت عقوبتهم (إلا صيحة واحدة) أي: (صوتًا واحدًا أحدثه بعض جنود ربك) (فإذا هم خامدون) قد تقطعت قلوبهم، وانزعجوا لتلك الصيحة الهائلة فأصبحوا لا صوت لهم ولا حركة ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار (والإعلام الفاسد)، ومقابلة أشرف الخلق (وأنصحهم لهم) بذلك الكلام القبيح (والسلوك الفاسد) وتجبرهم.( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- عبدالرحمن بن السعدي (مرجع سابق) (ص816)).

وهكذا هلك المتنطعون المكذبون المعاندون المستكبرون، ونجا هذا الرجل وفاز الفوز العظيم والحمد لله رب العالمين.

إنهم جماعة الشر وتجمع الفتنة ورفض شرع الله.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٣٨٦ – الجمعة ٨ مايو ٢٠٢٠ م، الموافق ١٦ رمضان ١٤٤١ هـ