أغلى شيء عند الإنسان ابنته يتمنى أن يزوجها رجلا شهمًا صادقًا أمينًا إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها، يعاملها بما أمر الله بالمعروف أو يفارقها كما يحب الله بالإحسان، وأسوأ شيء أن تتزوج ابنته نذلا غنيًا يفتقد إلى الرجولة والشهامة ويتسم بالدناءة والحقارة لا يراعى فيها إلا ولا ذمة.

علم سعيد بن المسيب رحمه الله هذه المعاني وطبقها عمليًا في حياة ابنته كما في الموقف التالي:

قال كثيرة بن أبي وداعة: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أيامًا، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي «أي زوجي» فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها «أي حضرنا جنازتها»، قال أبو وداعة: ثم أردت أن أقوم. فقال: هل استحدثت امرأة؟ «أي: هل تزوجت؟!»، فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال سعيد بن المسيب: أنا أزوجك، فقلت: أو تفعل؟ قال: نعم. ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني «ابنته» على درهمين أو ثلاثة «والتي أبى أن يزوجها ابن أمير المؤمنين عبدالملك ابن مروان».

قال أبو وداعة: فقمت وما أدري من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين؟! فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي، واسترحت، وكنت وحدي صائمًا، فقدمت عشائي أفطر فكان خبزا وزيتًا، فإذا بآت يقرع «الباب»، فقلت من هذا؟ قال: سعيد، قال: ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلاّ بين بيته والمسجد، فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له أن يرجع في الزيجة، فقلت: يا أبا محمد إلا أرسلت إلي فأتيك، قال سعيد: لا، لأنت أحق أن يؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلا عزبًا فتزوجت فكرهت أن تبيتن الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب، ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟! قلت: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب، وهذه ابنته اليوم وقد جاء بها على غفل، فقالوا: «استنكارًا»: سعيد بن المسيب زوجك «ابنته»؟!!! قال: نعم، وها هي في الدار، قال: فنزلوا هم إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن أنت مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.

قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجل الناس، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بحق الزوج.

ولما أراد أن يخرج قالت له: إلى أين. قال إلى درس سعيد، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد.

قال: فمكثت شهرًا لا يأتيني سعيد ولا آتية، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدًا وهو في حلقته، فسلمت عليه فرد السلام، ولم يكلمني حتى تقوّض أهل المجلس أي انصرفوا فلما لم يبق غيري، قال سعيد: ما حال ذلك الإنسان «أي: ابنته» قلت: خيرًا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال سعيد: فإن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجّه إلي عشرين ألف درهم.

العبر:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، (ج، ص: 374):

فهذا الخبر فيه مثل على طموح عظماء الرجال نحو معالي الأمور، فحينما تسمو بالرجال نفوسهم يهون عليهم كل ما تعارف الناس عليه من زخارف الدنيا، ولا يصبح أمامهم إلا هدف واحد يسخرون له كل ما في حياتهم الدنيا من متاع وجاه ألا وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والجنة له ولأهله.

فهذا الإمام الجليل سعيد بن المسيب قد خطب ابنته أمير المؤمنين عبدالملك ابن مروان لابنه الوليد – كما جاء في روايات أخرى – فلم يلتفت إلى ما يترتب على ذلك من رفعة دنيوية في المال والجاه، بل كان الشيء الذي يهيمن على تفكيره هو لزوم حماية ابنته من تلك المظاهر الدنيوية، فهو يرى بعلمه وفهمه أنه لو زوجها من أبناء الكبراء لكان سببًا في صرفها عن التزود بعمل الآخرة إلى الانشغال بمظاهر الدنيا، فامتنع من ذلك حماية لابنته من الفتنة، وصيانة لإيمانها من التصدع، ومن علمها من النسيان وعدم العمل به، وبالتالي فإنه قد وهبها الخير ولم يحرمها، وأسعدها ولم يشقها.

وكان يرى أن خيرها وسعادتها في زواجها من شاب تقي زاهد في الدنيا، متعلم، فاغتنم فرصة وفاة زوج أحد تلاميذه الأتقياء الفقراء، فعرض عليه الزواج بابنته التي خطبها قبل ذلك أبناء الأكابر، وهذا يعتبر مثلا أعلى في التواضع والزهد في متاع الدنيا وجاهها.

ثم إن الطريقة التي زف بها ابنته إلى ذلك الشاب كانت في غاية البساطة والروعة، فلا مظاهر ولا تكلف، ولا تقيد بالعوائد المرسومة التي تعارف عليها الناس.

ولقد كانت ابنته في غاية الطاعة له حيث سارت معه بتلك الطريقة البسيطة المحرجة لها، ما يدل على سمو تربيتها وقوة دينها، وغزارة علمها وفهمها كما جاء على لسان زوجها، وعندما أجلسته لتعلمه علم والدها سعيد الذي علمها إياه.

وأخيرا ترى هذا الإمام الجليل، والعالم الفذ الذي ملأت سمعته العلمية الآفاق يتحلى بالكرم الفياض، ففاض على ذلك الشاب الفقير بعشرين ألف درهم مع قبول تزويجه قبل ذلك على درهمين أو ثلاثة.

فلله ما أرجح عقله، وأسمى تفكيره وما أكرمه وأحزمه.

ومن ذلك ما أخرجه ابن سعد من خبر ابن حرمة، أن سعيد بن المسيب قال لا تقولن مُصَيْحفا ولا مُسَيْجدا، ولكن عظموا ما عظم الله تعالى، كل ما عظم الله فهو عظيم. (طبقات ابن سعيد، 173/5. نقلا عن التاريخ الإسلامي، المرجع السابق).

فمتى نتعلم ونعلم بناتنا هذه المواقف التربوية العظيمة؟! ومتى نتعلم ألا نقترض من البنوك حتى ولو كانت المعاملة ربوية لتقيم حفلا للزواج ويقوم الزوجان برحلة الزواج ثم يعودان إلى ديارهم وقد هدَّت الديون كاهلهما وتنشب بينهما الخلافات حتى أصبحت أعلى نسب الطلاق تقع في السنة الأولى من الزواج غير الموفق، والبنت المتمردة تحولت إلى زوج متمردة، والولد الطائش الجاهل تحول إلى زوج طائش جاهل.

نحن لا نريد أبًا كسعيد بن المسيب أو زوجًا كأبي وداعة أو زوجة كابنة سعيد ولكن نريد اعتدالا في الإنفاق وتفهمًا في الأفكار، وانضباطًا في السلوك وخوفًا من الله والمعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان. والتربية الحسنة لأبنائنا وأهلنا.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٢ – الاثنين ٠٤ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٣٩هـ