مارس المسلمون الشورى في كل موطن وكل حادثة، فكان الرأي جماعيًا مع غياب التسلط والدكتاتورية، وكانت الشورى في الحرب والسلم، والحياة الاجتماعية، والاستنفار العام، ووقت انتشار الأوبئة والأمراض المهلكة ومواجهة المفاجآت والنوائب والأزمات، والموقف التالي يجسد ذلك.

الموقف:

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرع لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، وأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع منه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن نقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان: فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: أني مصبح على ظهر فأصحبوا عليه؛ أي قرار الرجوع بعيدًا عن الوباء، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به؛ «أي: الوباء» في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه.

قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (رواه البخاري ومسلم).

قال الدكتور الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، (مرجع سابق، ص: 516):

يمكن تلخيص العبر التي في هذا الموقف فيما يلي:

اهتمام عمر رضي الله عنه بتطبيق مبدأ الشورى في الأمور المهمة، ونجد أنه بدأ بالمهاجرين الأولين ثم الأنصار، ثم بالمهاجرين بعد فتح مكة، وذلك أن من كان في الإسلام أقدم كان به أعلم فهو أولى بأن يقدم في المشورة، فأمر الشورى في الإسلام يدور دائمًا على العلماء بهذا الدين وخاصة في مثل هذا الموقف.

وقد أخذ عمر رضي الله عنه برأي الكثرة من أهل الرأي. قال الحافظ ابن حجر في (بيان فوائد الحديث في الفتح 190/10): وفيه الترجيح بالأكثر عددًا والأكثر تجرية لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار.

في هذا الموقف فقه عمر رضي الله عنه وسعة تفكيره حينما قال: أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. قال الحافظ ابن حجر في (بيان كلام عمر هذا في الفتح 185/10): وأطلق عليه فرارًا لشبهة به في الصورة وإن كان ليس فرارًا شرعًا، والمرء على ما يهلكه منهي عنه، ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما لو فرّ منه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله، فهما مقامان: مقام التوكل ومقام التمسك بالأسباب.. انتهى.

والمختصون في علوم الأوبئة والأمراض المعدية الفتاكة والطواعين يرون أن كلمة الفرار مناسبة للهروب السريع من الاقتراب من مكان الوباء لأن عوامل الزمان والمكان مؤثرات في العدوى بالوباء.

وقد أكد عمر رضي الله عنه بيان اجتهاده في المسألة المطروحة بضرب هذا المثل المقنع والمنطقي والعلمي والعملي فيمن هبط بماشيته واديًا له عدوتان، يعني جانبان مرتفعان، أحدهما خصيب والآخر جدب فهو إن ساق ماشيته نحو الخصيب ساقها بقدر الله، وإن كان راعي الماشية مسؤولاً عن أن يرتاد لها ما ينفعها وأن يحوزها عما يضرها، فإن مسؤولية الولاية في الأمة أعظم من ذلك بكثير.

وقد كان من تمام التوفيق أن وافق اجتهاد عمر وما عزم عليه ورآه صوابًا من الرجوع أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان محفوظًا عند عبدالرحمن بن عوف وهو قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الوباء: إذا سمعتم بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه.

وقد أفاض ابن حجر رحمه الله في الفتح حيث نقل عن الإمام الطحاوي قوله: والذي يظهر -والله أعلم- أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، ولعله لو قام في الموضع الذي كان فيه لأصابه، فأمر أن لا يقدم عليه حسمًا للمادة، ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها لئلا يسلم فيقول مثلاً: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء.. انتهى.

قال الحافظ: إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين، أن يقول قائل: خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب، ولو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان. (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، مرجع سابق، ص: 517).

ونحن نرى أن في عدم الخروج من أرض الطاعون لمن فيها حتى لا يحمل جراثيم المرض إلى المكان الذي ينتقل إليه ويوسع دائرة العدوى، ومن هنا سنت الدول نظام الحجر الصحي، كما كان يحدث من حجاج بيت الله قديمًا في منعهم من دخول ديارهم قبل أداء مدة في الحجر الصحي ليثبت براءة الحاج من الأمراض المعدية كالطاعون والكوليرا وغيرها، وهذا هدي نبوي معجز سبق به المصطفى صلى الله عليه وسلم قوانين الحجر الصحي والحد من انتشار الأوبئة والكائنات الحية الدقيقة المسببة لها والله أعلم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨١ – الأحد ٠٣ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ١٨ رمضان ١٤٣٩هـ