من الثابت في السنة النبوية أن النار لا تمس العين التي باتت تحرس في سبيل الله، تلك العين التي وقفت على الحدود تراقب قدوم العدو والتي باتت تعمل ليلاً في إعداد الخبز والطعام للمجتمع المسلم، والتي باتت في أقسام الاستقبال والطوارئ في المستشفيات لإنقاذ حياة المسلمين، والتي باتت وسهرت لتحصيل العلم وتدارسه ونشره، والعيون التي باتت تحرس أملاك وأرواح المسلمين في الداخل، والتي باتت في المطار تنظم السفر في ديار المسلمين والتي باتت تُمرّض الأبناء والآباء المرضى في البيوت بأمراض تحتاج إلى الرعاية الدائمة كلها، وغيرها عيون باتت تحرس في سبيل الله.. وفي الموقف التالي نعيش مع عيون باتت تحرس أموال المسافرين والتجار من السرّاق فكانت في عبادة الله وفي سبيل الله.

الموقف:

أخرج الإمام الطبري رحمه الله من طريق بكر بن عبدالله المزني رحمه الله قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما فضربه، فجاءت المرأة ففتحته، ثم قالت له: لا تدخل حتى أدخل البيت وأجلس مجلسي، فلم يدخل حتى جلست، ثم قالت: ادخل، فدخل، ثم قال: هل من شيء؟ فأتته بطعام فأكل، وعبدالرحمن قائم يصلي، فقال له عمر: تجوز أيها الرجل، أي: خفف صلاتك، فسلم عبدالرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه فقال: ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: رُفْقَةُ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سُرّاق المدينة، فانطلق نحرسهم، فانطلقا فأتيا السوق فقعدا على نشر مرتفع من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباح، فقال عمر: ألم أنهَ عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقا فإذا هم قوم على شراب لهم، فقال: انطلق قد عرفته، فلما أصبح أرسل إليه فقال: يا فلان كنت وأصحابك البارحة على شراب؟ قال: وما علمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته، قال: أولم ينهك الله عن التجسس؟! قال: فتجاوز عنه.

قال بكر بن عبدالله المزني: وإنما نهى عمر عن المصابيح لأنه الفأرة تأخذ الفتيلة فتُرمى بها في سقف البيت فيحترق، وكان إذ ذاك سقف البيت من الجريد. (تاريخ الطبري502/4م).

العبر: 

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق، (ج: 17، ص: 198)، قال:

نجد في هذا الخبر فهم عمر العميق لمجالات العبادة وتقديم الأهم على المهم، فحينما كان بعض المسلمين بحاجة إلى حراسة عمر وعبدالرحمن بن عوف كان أمر احتياجهم مقدمًا على صلاة النفل، فالصلاة عبادة، وخدمة المسلمين أيضًا عبادة، وما دامت الصلاة نفلاً فإن ما نزل من حاجة المسلمين مقدم على ذلك، لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين.

ولقد كان هذا الأمر واضحًا لدى الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لم ينكر عبدالرحمن على عمر أن أمره بتخفيف الصلاة وإنهائها من أجل المشاركة في خدمة المسلمين، ولم ير أن غيرهما من صغار المسلمين أولى بالقيام بهذه المهمة لأنهم كانوا ينظرون إلى هذا الأمر من خلال كونه عبادة وعملاً صالحًا، فهو أمر يتنافسون عليه، ولا يوكلونه لغيرهم، لأنهم يرون أنفسهم أحوج إلى الأجر مثل غيرهم. وإن لهم في ذلك أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لمن عرض عليه أن يستريح في السفر، ما أنت بأقوى مني ولا أنا بأغنى منك من الأجر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد جمع الحطب. انتهى..

وهنا ننبه إلى الذين يتركون مصالح الناس في بعض المصالح الحكومية وينشغلون بقراءة القرآن في مكاتبهم أثناء الدوام الرسمي، والذين ينشغلون في صلاة النافلة أثناء الدوام ويتركون مصالح العباد معطلة، وكذلك بعض المعلمين والمعلمات الذي تقاعدوا مبكرًا من دون عذر صحي واعتبروا التدريس تضييعا للعمر وانخرطوا في دروس التجويد وحضور الدروس الدينية، والمدارس تئنّ من غياب الخبرة في مجال العلوم الكونية (أحياء، كيمياء، فيزياء) التي كانوا يدرسونها في المدارس وخاصة مدارس البنات الثانوية.

وأخرج ابن سعد من خبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى فقال عمر لعبدالرحمن بن عوف: هل لك أن نحرُسهم الليلة من السُّرَاق؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال: ويحك، إني لأراك أمّ سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبدالله قد أبرمتني منذ الليلة، لا يُفرضُ إلا للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهر، قال: ويحك لا تُعجليه، فصلى الفجر وما يستبينُ الناسُ قراءته من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: يا بؤسًا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين؟! ثم أمر مناديًا فنادى: ألا لا تُعجلوا صبيانكم عند الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.

وكتب بذلك إلى الأوقاف: إنا نفرض لكل مولود في الإسلام. (طبقات بن سعد، 301/3).

قال الدكتور الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر:

فهذا مثل من قيام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بمسؤوليته الكاملة في رعاية أفراد أمته وحمايتهم وكان بإمكانه أن يوكل بالحراسة أفرادًا يقومون بهذه المهمة، ولكنه يريد أن يجعل من نفسه مثلاً عاليًا يحتذى لأمرائه في أنحاء البلاد.

وقد غير عمر أنظمة العطاء فصار يفرض لكل مولود في الإسلام حتى لا تعجل الأمهات بفطام أولادهن فيتضرروا بذلك، ولقد بلغ من تأثره بهذه الحادثة أن غلبه البكاء حتى وهو يصلي الفجر إمامًا بالمسلمين. انتهى..

وهكذا باتت عيون عمر وعبدالرحمن بن عوف تحرس في سبيل الله برعاية مصالح المسلمين واعتبروا ذلك عبادة مقدمة على عبادة النافلة من الصلاة فمتى نتعلم ذلك وتسهر عيوننا في سبيل الله في المصانع والمدارس ونظافة البيئة وتعليم أبناء المسلمين؟!!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٨٠ – السبت ٠٢ يونيو ٢٠١٨ م، الموافق ١٧ رمضان ١٤٣٩هـ