تحتاج الشعوب إلى الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، فالتعليم والتعلّم بالقدوة أو الأسوة من أفضل الوسائل التربوية الفعالة والناجحة.

فالتربية بالقدوة تترجم الكلمات إلى مواقف، وتحول العبارات إلى سلوكيات وأخلاق، فتربي النفوس من خلالها تربية صحيحة ومؤثرة. (بناء الشخصية الإسلامية في السيرة النبوية، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، ص: 181).

وعندما تأتي الأسوة والقدوة من المتنفذ المتمكن تكون أنفع وأنجح للناس، وهذا ما تجسده المواقف التالية من حياة خليفة المسلمين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.

الموقف الأول:

وفد إلى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله بريد من بعض أفاق الدولة، فانتهى إلى باب عمر ليلاً فقرع الباب فخرج إليه البواب فقال: أعْلِمْ أمير المؤمنين أن بالباب رسولاً من فلان عامله. فدخل البواب فأعلم عمر، وقد أراد أن ينام، فقعد وقال: إئذن له: فدخل الرسول فدعا عمر بشمعة غليظة من بيت مال المسلمين، فأججت نارًا، وأجلس الرسول، وجلس عمر فسأله عن حال أهل البلد وما بها من المسلمين، وأهل العهد، وكيف سيرة العامل، وكيف الأسعار، وكيف أبناء المهاجرين والأنصار وأبناء السبيل والفقراء، وهل أعطي كل ذي حق حقه، وهل له شاكٍ وهل ظلم أحدًا؟!

فأنبأه الرسول بجميع ما علم من أمر تلك البلد. فلم يدع شيئًا إلاّ أنبأه به، كل ذلك يسأله فيجيب حتى إذا فرغ عمر من مسألته قال له الرسول: يا أمير المؤمنين كيف حالك في نفسك وبدنك؟ وكيف عيالك وجميع أهل خزانتك، ومن تعني بشأنه؟ قال: فنفخ عمر الشمعة فأطفأها بنفخته.

وقال: يا غلام عليّ بسراج من أملاك عمر بفتيلة لا تكاد تضيء، فقال: سل عما أحببت، فسأله عن حاله فأخبره عن حاله وحال ولده وعياله، وأهل بيته، فعجب الرسول البريد للشمعة وإطفائه إياها وقال: يا أمير المؤمنين رأيتك فعلت أمرًا ما رأيتك فعلت مثله، قال: وما هو؟

قال: وما هو؟ قال: إطفاؤك الشمعة عند مسألتي إياك عن حالك وشأنك.

فقال يا عبدالله إن الشمعة التي رأيتني أطفأتها من مال الله ومال المسلمين وكنتُ أسألك عن حوائجهم وأمرهم فكانت تلك الشمعة تَقِدُ بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم: فلما صرت «تحولت» لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين وأشعلت شمعتي. (سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم، 155. عن التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، ص: 208. مرجع سابق).

العبر:

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق: هذا التصرف الذي قام به عمر بن عبدالعزيز في غاية السمو من الورع وفيه ملاحظة في الفصل بين حق النفس وحق المسلمين.

ولو تصور أي مسؤول هذا الأمر لأدرك أن القليل جدًا من المسؤول يحظى بهذا التذكر السريع في أمر بسيط كهذا ثم القليل من هؤلاء الذين يتورعون بهذه الدقة فيتجنب الاستفادة من حق المسلمين العام في مثل هذا الأمر الصغير. انتهى.

وهذا يذكرنا بالمتنفذين الذين استباحوا الأموال العامة واعتبروها ملكًا لهم ولأولادهم وأهليهم بل حولوها إلى حساباتهم الخاصة وهم لا يعلمون أن: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (الزلزلة: 7-8).

الموقف الثاني:

قال عمر بن عبدالعزيز لخادمه: يا مزاحم، بعني رحلاً لمصحفي «أي: اشتر لي مسندًا لمصحفي»، قال: فأتاه برحلٍ فأعجبه، قال عمر: من أين أصبت هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين دخلت بعض الخزائن «أي: بيت المال»، فوجدت هذه الخشبة فاتخذت منها رحلاً، قال عمر: انطلق فقوّمه في السوق، فانطلق مزاحم فقوّمه بنصف دينار، فرجع إلى عمر فأخبره، قال عمر: تُرانا إن وضعنا في بيت المال دينارًا «مقابل الخشبة» أنسلم منه؟ قال: إنما قوّموه بنصف دينار. قال: ضع في بيت المال دينارين «مقابل الخشبة».

الموقف الثالث:

وأخرج محمد بن سعد من خبر وهيب بن الورد قال: بلغنا أن عمر بن عبدالعزيز اتخذ دار الطعام للمساكين والفقراء وابن السبيل، قال: وتقدم إلى أهله: إياكم أن تصيبوا من هذه الدار شيئًا من طعامها، فإنما هو للفقراء والمساكين وابن السبيل. فجاء يومًا فإذا مولاة لها معها صحفة فيها غرفة لبن فقال لها: ما هذا؟ قالت: زوجتك فلانة حامل كما قد علمت واشتهت غرفة من لبن، والمرأة إذا كانت حاملاً فاشتهت شيئًا فلم تُؤت به تخوفت على ما في بطنها أن يسقط، فأخذتُ هذه الغرفة من هذه الدار «دار طعام المساكين والفقراء وابن السبيل».

فأخذ عمر بيدها فتوجه بها إلى زوجته وهو عالي الصوت وهو يقول: إن لم يُمسك ما في بطنها إلاّ طعام المساكين والفقراء فلا أمسكه الله. فدخل على زوجته فقالت له: مالك؟ قال: تزعم هذه أنه لا يُمسك ما في بطنك إلا طعام المساكين والفقراء، فإن لم يُمسكه إلاّ ذلك فلا أمسكه الله. قالت زوجته: رُدّيه ويحك، والله لا أذوقه. قال: فردته. (المرجع السابق، ص: 210).

الموقف الرابع:

وأخرج من خبر عبيد بن الوليد قال: سمعت أبي يذكر أن عمر بن عبدالعزيز كان يُسّخن له في مطبخ العامة ماء يتوضأ به وهو لا يعلم، ثم علم بعد ذلك فقال: كما لكم منذ أسخنتموه؟ فقالوا: شهرًا أو نحوه.

قال: فألقى في مطبخ العامة لذلك حطبًا من ماله الخاص.

الموقف الخامس:

وأخرج أبو نعيم الأصبهاني من خبر الحكيم بن عمر قال: شهدت عمر بن عبدالعزيز وأرسل غلامه يشوي بكبكبة من لحم، فعجل بها، فقال عمر: أسرعت بها. قال الغلام: شويتها في نار المطبخ – وكان للمسلمين مطبخ يُغديهم ويُعشيهم، فقال عمر لغلامه: كلها يابني فإنك رُزقتها ولم أُرزقها. (حلية الأولياء، 291/5).

العبر:

هذه الأخبار تفيد تورع أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن الاستفادة من مال المسلمين العام، وهي تبين ورعه عن أشياء صغيرة جدًا لا تلفت نظر أكثر الناس، ولكنه لدقة إحساسه بالحرام والشبهات تنبه إليها، فقدم بذلك أمثلة رائعة للورع أصبحت عبرة ومفخرة لأفراد الأمة من معاصريه والذين جاءوا بعده.

وهؤلاء قوم عفُّوا فعفت الرعية، وانحسر الفساد وضيق على سُرّاق المال العام والمفسدين والمرتشين الذين سرقوا أموال الرعية وتركوا الفقراء من دون مأوى أو علاج أو غذاء وهم في الحرام يسبحون والعياذ بالله.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٦ – الثلاثاء ٢٩ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١٣ رمضان ١٤٣٩هـ