لم تستطع القوة الحربية الرومانية أن تحمي حصونها من قوة المسلمين في فتح مصر واستطاعت حمامة أن تحمي الفسطاط وتحول دون هدمه أو نقله من مكانه، إنها القوة التي أعطاها الإسلام لهذا الطائر الضعيف وفراخه والاستجابة التي طبقها قائد المسلمين، إنها معجزة من معجزات الإسلام الخالدة في حفظ حقوق الحيوان والنبات والجماد علاوة على حفظهم لحقوق المخلوق المكرم -الإنسان- تلك الحقوق التي لم تحفظها جيوش الغرب الغازية وحمتها جيوش الإسلام الفاتحة والموقف التالي يبرهن على ذلك.

الموقف:

لما انتهى المسلمون من فتح حصن باب اليون المنيع بمصر أراد عمرو بن العاص رضي الله عنه التحول من مكانه الذي كان يعسكر فيه، وأمر بالرحيل لاستكمال فتح مصر، حدثت حادثة واجهها عمرو بن العاص بسلوك إسلامي رفيع يدل على عمق تخلقه بمكارم الأخلاق الإسلامية، وقد ذكر ذلك ابن عبدالحكم رحمه الله حيث يقول:

لما فتح عمرو بن العاص الحصن وهو المسمى الآن بقصر الشمع فكان فسطاطه -أي معسكره- قبالة الحصن فلما أراد التوجه إلى الإسكندرية أمر بنزع الفسطاط من ذلك المكان، فلما أرادوا ذلك وجدوا عليه عش يمامة قد باضت وأفرخت، فقال عمرو: اتركوا الفسطاط على حاله احترامًا لليمامة التي عششت عليه. (بدائع الزهور 1/103).

وفي رواية أخرى عند ابن عبدالحكم: أن عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بقي بها من الروم أمر بنزع فسطاطه فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال عمرو بن العاص: لقد تحرّم منا بمتحرّم.

فأمر به فأقرّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر. (فتوح مصر 68).

العبرة:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، (ج: 12. ص: 328. مرجع سابق):

هذا شاهد على ما كان يتمتع به المسلمون الأوائل من الرحمة والعطف والمواساة، فلم تكن الحروب المتواصلة، ومشاهد القتل والدماء عاملاً على قسوة قلوبهم وميلها إلى العدوان والانتقام بل وجدهم العالم رحماء بررة أوفياء، ولا أدل على هيمنة الرحمة على قلوبهم من هذا الخبر، حيث ترك عمرو فسطاطه رحمة بالحمامة التي عششت عليه وفرخت فيه.

وإذا كان هذا القلب الكبير حتى على حمامة فأبقى خيمته من أجل أن لا تفجع بفراخها، أفلا يكون حانيًا على بني البشر إذا هم تخلوا عن طغيانهم وأبصروا طريق الحق ولم يحولوا بين الناس وسماع دعوة الحق؟!

إن هذا السلوك العالي يعتبر من أهم وسائل الدعوة إلى الإسلام فالذين يمرون على ذلك الفسطاط القائم وحده من أجل تلك الحمامة وفراخها، والذين يسمعون هذا الخبر سيتساءلون عن الدوافع التي دفعت هذه الأمة إلى أن تكون قوية إلى أعلى غايات القوة في القتال ورحيمة رقيقة إلى أسمى درجات الرحمة والرقة في حال السّلم، فكيف جمعت بين هذه الخصال التي ظاهرها التناقض؟!!

والذي يجيب عن هذا التساؤل هو البحث عن حقيقة الدين العظيم الذي خضعت له هذه الأمة وأصبح هو المهيمن، هذا الدين هو الذي جمع الله به بين قبائل العرب المتفرقة المتناحرة حتى تكونت منهم النواة الأولى للأمة الإسلامية.

فكل محاولات العظمة، وجميع نواحي الإبداع التي تمت من قادة المسلمين وجنودهم إنما هي من ثمرات الهداية إلى هذا الدين العظيم.

وأخيرا فإننا نجد في هذا الموقف لفتة مهمة نحو استشعار أولئك العظماء رقابة الله عز وجل في كل خطوة يحفظها فلو أن هذا القائد العظيم أمر بإزالة الفسطاط فمن الذي سيلومه على هذا التصرف؟ لكنه يعلم أن الله تعالى مطلع عليه فهو يراقبه جل وعلا ويعلم أن معيته سبحانه لعباده بالنصر والتأييد إنما تكون بمعيتهم له بالطاعة والخضوع والتعظيم، وإنما يستنزل المسلمون نصر الله سبحانه وتعالى برحمتهم خلقه الضعفاء، وإن كانوا من العجماوات التي لا حول لها ولا قوة. انتهى..

وقد تعلم الصحابة رضوان الله عليهم هذا السلوك في الرأفة بالحيوان وتعلمه معهم المسلمون من المعلم الأول للبشرية صلى الله عليه وسلم.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمّرة «طائر صغير الحجم» معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمّرة فجلعت تُعرّش بجناحيها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجّع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها.

ونحن نعلم حديث المرأة التي دخلت النار في هرة «قطة» حبستها فلم تسقها ولم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض.

ونعلم حديث المرأة البغي التي سقت الكلب فغفر الله لها، وكذلك الرجل الذي سقى الكلب الذي يأكل الثرى من العطش.

ولذلك أوقف المسلمون الأوقاف على رعاية الحيوان مثل وقف الهررة «القطط» في مصر الإسلامية لإطعام وسقاية القطط الضالة، ووقف الطير في تركيا للطيور المهاجرة المتخلفة في الوصول إلى أوروبا حيث الأعشاش والطعام والعناية.

فأين نحن من هذا السلوك الإسلامي الأصيل، ولماذا نسينا هذا ونسينا الفضل في حقوق الحيوان للغرب؟

(انظر حقوق الحيوان في الإسلام، أخي المسلم اكتشف الإسلام، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، ص: 188، دار السلام للطباعة والنشر بالقاهرة).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧١ – الخميس ٢٤ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٨ رمضان ١٤٣٩هـ