الموقف:

فرح المسلمون فرحًا غامرًا لفتح الإسكندرية بمصر وقد بعث عمرو بن العاص معاوية بن خديج إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، قال معاوية: فقدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب المسجد..

ثم دخلت المسجد فبينما أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتني شاحبًا على ثياب السفر، فأتتني فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن خديح رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني، ثم أقبلت تشتدّ أسمع حفيف إزارها على ساقها، أو على ساقيها، حتى دنت مني فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها، فقال: ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج معي إلى المسجد، فقال للمؤذن، أذن في الناس، الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك، فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة ودعا بدعوات، ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام، فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: كل؛ فإن المسافر يحب الطعام، فلو كنت آكلاً لأكلت معك، فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد. قال: قلت: أمير المؤمنين قائل -أي: نائم في الظهيرة- قال: بئس ما قلت: أو بئس ما ظننت -لئن نمت النهار لأضيعين الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية. [فتوح مصر62. نقلاً عن التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، المرجع السابق، ج: 12. ص: 348].

العبر:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في المرجع السابق: من هذا الخبر نستنتج أن المسجد في عصر الإسلام الأول كان يمثل أهم وسائل الإعلام، حيث يجتمع المسلمون فيه بنداء: الصلاة جامعة، وهذا النداء يعني أن هناك أمرًا مهمًّا سيتم إبلاغه لعموم المسلمين، فإذا اجتمع أُلقيت عليهم البيانات العسكرية، والأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.

كما نستفيد من هذا الخبر وصفًا لحياة أمير المؤمنين وقائد المسلمين عمر رضي الله عنه، حيث يقول لمعاوية بن خديج، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، وهذا يدل على كمال اليقظة لحق النفس وحقوق الآخرين، وإذا استطاع المسلم أن يجمع بين مراعاة ذلك كله فإنه يكون من المتقين المحسنين.

فالليل فرصة عظيمة للعمل الصالح، فإن كثرة الصلاة وتحصيل العلم تزيد من الحسنات، وترفع رصيد المؤمن عند ربه تعالى يوم القيامة، كما أنها تقوي قلبه ونفسه على تحمل الشدائد والمشكلات التي يواجهها مع الناس في النهار وتنير بصيرته وتحصنه من شياطين الإنس والجن، فلا بد للمسلم، وخاصة من يتحمل مسؤولية في أمته أن يتزود بالصلاة، وكلما أقامها وكان زاده منها أكبر كان احتماله لمواجهة الشدائد أقوى، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى بين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل والإخبار بضخامة المسؤولية المنوطة به حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 1-5].

والنهار فرصة للعمل الصالح من ناحية أداء المسؤولية التي تحملها المسلم نحو إخوانه المسلمين، بأن يؤدي حقوقهم كاملة، وكلما زادت حساسية المسلم نحو شعوره بالمسؤولية، فإنه يضاعف من عمله، حتى لا يستطيع أن يجد إلى الراحة سبيلاً.

وأمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه يشير بقوله هذا إلى هذه المعاني وغير ذلك مما يدركه بحسه الإيماني القوي، ولا شك أنه قد بلغ الدرجات العلا في مراعاة المسؤولية وأداء حقوق الناس. انتهى.

كما أنه رضي الله عنه كان يتحسس بالليل ويطوف على الرعية يتفقد حالها والأخبار في ذلك كثيرة.

وهذا يأخذنا إلى المسؤولين عن المسلمين الذي يحبسون في المنتجعات بعيدًا عن الرعية، ويتركون الأمور للآخرين يديرونها ويحجبون الراعي عن الرعية ويحولون دون وصول أنات الناس إليه فيضيع ويُضيع رعيته.

وراسل عمرو بن العاص أمير المؤمنين فأجابه بقوله: اعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل بيته. فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يُعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين، فقال: قد فعلت.

وقد أسلم فيمن أسلم أبو مريم عبدالله بن عبدالرحمن؛ قال الراوي: وقد أدركته وهو عريف بني زبيد.

وهذا شاهد صدق على أن الصحابة كان عندهم رغبة في دخول الناس في هداية رب العالمين ورفع شأنهم عندما يدخلون الإسلام ويعاملون معاملة المسلمين تمامًا لذلك كان الصحابة يكبرون بدخول أحد الأسارى للإسلام وخاصة بعدما مكث مدة مأسورًا بين المسلمين يرى حسن دينهم وحسن معاملتهم.

ورفع درجة أبي مريم ابن عبدالرحمن إلى درجة العريف في الإسلام يدل دلالة واضحة على تجرد المسلمين آنذاك من العصبية، وأن مقياس الكرامة في الإسلام الذي شرعه الله تعالى قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، وهذا كان مطبقًا في عصور الإسلام الزاهرة.

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

إن الذي يدرس فتح مصر يجد أن المسلمين عاملوا أهل تلك البلاد بالرفق واللين أكثر مما عاملوا غيرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بفتح مصر وأوصاهم بأهلها خيرًا، وذكر أن لهم فيها ذمة ورحمًا، ولا شك أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يراعون ذلك، هذا إضافة إلى أن أهل البلاد من الأقباط كانوا يميلون إلى المسلمين ويرون فيهم سببًا للخلاص من عسف الروم وجبروتهم وكان عمرو بن العاص يكرم كبراءهم ويهتم بهم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٣ – السبت ٢٦ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١٠ رمضان ١٤٣٩هـ