كان من الجيوش الإسلامية التي غادرت المدينة المنورة لحرب الروم جيش يزيد بن أبي سفيان فكان مما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد:

إني قد وليتك لأبلوك وأُخَرَّجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، واقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه.

وقد وليتك عمل خالد (خالد بن سعيد بن العاص وقد طلب استعفاءه فأعفاه أبو بكر) فإياك وعبيِّة الجاهلية (يعني التعصب لما كان عليه أهل الجاهلية) فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها.

وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لُبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينّهم فيروا خَلَلَك ويعلموا عملك، وأنزلهم في ثروة عسكرك) ليروا قوة المسلمين(، وامنع من قيلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتهم فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تَخْزُن (تمنع) عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك.

واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبدّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه، فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنه أيسرها لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجّنّ فيها، ولا تسرع إليها، ولا تتخذ لها مدفعًا، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العبَّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء، وأصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له.. انتهى. [عن التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، مرجع سابق، ج: 9. ص: 191].

العبر:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في المرجع السابق: قال ابن الأثير: وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعًا لولاة الأمر. [الكامل في التاريخ 2/276].

هذه الوصية وأمثالها تسجل إضافة جديدة لمواقف الصديق المتعددة الأنواع فإذا تأملت ودرست إدارته للحكم وجدت رجلاً بارعًا في أمور السياسة، وإذا رأيت توجيهه للقادة العسكريين تجد رجلاً بارعًا في شؤون الحرب، وكأنه مع القادة في الميادين، وإذا رأيت رحمته وتأليفه للقلوب رأيت رجلاً بارعًا في الدعوة إلى الله تعالى، فهو الرجل الرحيم بالمؤمنين، الرافع لشأن أهل البلاء والصدق منهم، الخبير بأهل الكفاءة والقدوة، القوي الحازم على أعداء الله من المنافقين والكافرين.

والوصية تبين أن الولايات والمناصب في الإسلام ليست حقًا ثابتًا لأصحابها وإنما بقاءهم فيها مرهون بالإحسان والنجاح والعمل، ومن واجب المسؤول مكافأتهم إن أحسنوا، وأن يحاسبهم إذا أساؤوا، وهذا العدل يدفع صاحب العمل إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاقة ليصل إلى مستوى أعلى من النجاح في العمل، أما إذا ضمن البقاء فإنه يميل إلى الكسل والاشتغال بمتاع الدنيا، فيخل بمسؤوليته ويعرّض من تحت ولايته إلى أنواع الفساد والفوضى والنزاع (وقد جربنا ذلك في العصر الحديث في حرب اليهود سنة 1967م مما أدى إلى النكبة المسماة بالنكسة التي ضاعت فيها الأرض وهلك الجند وهزمنا هزيمة منكرة، وعكس ذلك حدث في حرب أكتوبر عندما أصلحنا هذا الفساد فلقنا العدو درسًا لن ينساه هو وأعوانه).

تقوى الله عز وجل من أهم عوامل النجاح في العمل.

التحذير من الجاهلية والتعصب، فإن التعصب يحمل الإنسان على الانحراف عن الطريق المستقيم.

إذا أصلح المسؤول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه أنموذجًا صالحًا للقدوة الحسنة فإن ذلك يكون سببًا في صلاح من هم تحت قيادته.

الاهتمام بإقامة الصلاة كاملة مظهرًا ومخبرًا يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذب السلوك، وتقوى القلوب، وتبعث على ارتياح النفوس ورفع الهمم، وهي ملاذًا للمسلم عند الشدائد وملاقاة المصاعب.

إكرام رسل العدو إذا قدموا، مع الاحتراس منهم، وعدم تمكنهم من معرفة واقع الجيش، فإكرامهم نوع من الدعوة إلى الإسلام فيما إذا علم العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لا يصل هذا الكرم إلى حد إطلاعهم على بطانة أمور المسلمين.

الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التهاون في إفشائها، فإن الحكيم يستطيع التصرف في الأمور وأن تغيرت وجوهها مادام سره جيشًا عن عدوه، فإذا أفشاه اختلطت عليه الأمور ولم يستطع التحكم فيها.

إتقان المشورة والوضوح في عرض الأمور على المستشار.

العمل بمبدأ الثواب والعقاب:

يقظة المسؤول وانتباهه ما يجري حوله في حدود المسؤولية المناطة به حتى يشعر المحكومين بأن هناك اهتمامًا بأمورهم فيزيد المحسن إحسانًا ويقتصر المسيء عن الإساءة ولا يتمادى بها.

أن يحرص المسؤول على مجالسة أهل الصدق والوفاء والعقول الراجحة وإن سمع منهم ما يكرهه أحيانًا من النقد والتوجيه، ولا يجالس أصحاب اللهو والأهداف الدنيوية فإن هؤلاء يحولون بينه وبين التفكير في الأمور الجادة. [المرجع السابق].

وهكذا برع الصديق في توجيه القائد مما ينعكس على جنده وأمته. [المرجع السابق].

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٦٩ – الثلاثاء ٢٢ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٣٩هـ