كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الأمل في نفوس الصحابة دائمًا في المستقبل وقد بشرهم بفتح الحيرة ووصف لهم شُرَفَ قصورها.

الموقف:

بعد أن هزم خالد بن الوليد الأعداء المتحيزين من العجم والعرب في (أليس) وهدم مدينة (أمغيشيا) حتى لا تكون مأوى لتجمع الأعداء أحس أمير الحيرة (ألآزادية) بالخطر لدنو خالد منه فتهيأ لحرب خالد، وأمر ابنه بسد الفرات ليحول بين المسلمين وعبور النهر بالسفن، وكان خالد قد حمل الرجال والعتاد على السفن، ففوجئوا بتوقف السفن لضحالة ماء النهر، فقال الملاّحون إن أهل فارس سدوا النهر فسلك الماء غير طريقه.

وكان خالد على الخيل فسارع نحو ابن أمير الحيرة فلقي حامية له وهُم آمنون فأبادهم ثم سارع إلى فم فرات بادقلي حيث يعسكر ابن أمير الحيرة فلقيه هو وجنده فاقتتلوا فقضى عليهم خالد، وفجّر الفرات وسلك الماء سبيله، وأخذ خالد جيشه وسار نحو الحيرة.

ولما علم أمير الحيرة بقتل ابنه، وكان بلغه موت كسرى (أردشير) خرج وقطع الفرات هاربًا، وأخلى الحيرة ليواجه أهلها جيش المسلمين.

وكان في الحيرة أربعة حصون، فأمر خالد بكل حصن قائدًا من قواده، فأمر القائد ضرار بن الأزور بأن يحاصر القصر الأبيض، وأمر القائد ضرار بن الخطاب بأن يحاصر قصر العرسيين وأمر القائد ضرار بن مقرّن المزني بأن يحاصر قصر بن مازن، وأم القائد المثنى بن حارثة بأن يحاصر قصر ابن بقيلة.

وعهد خالد إلى قواده أن يبدأوا هؤلاء المحصورين بالدعوة للإسلام فإن قبلوا وأسلموا قبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يؤجلوهم يومًا وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ولكن ناجزوهم، ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.

لقد كانت هذه الحصون المنيعة تصدُّ الغزاة من قبل، وقد صُمَّمت لذلك لأن من دنا منها يكون قد دنا من الموت على أيدي الرماة الذين يملؤون الشرفات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل عندما بشر المسلمين بفتح قصور الحيرة وشبهها بضروس الكلاب في تراصها. ولكن المسلمين من طراز آخر، فإنهم لا يصدهم حصون ولا خنادق، لأنها تعتبر من مواطن الموت وهم يتسابقون على نيل الشهادة، ولذلك دنوا من الحصون ورشقوا أهلها بالنبال حتى خلت شرفاتها من المقاتلين وإن تفوق من هم على الأرض على من كانوا فوق الحصون في الرماية يعتبر من الأمور النادرة، ويستحق كل إعجاب وتقدير، وقد أثار الرعب في قلوب الأعداء وهم محصنون في قصورهم فاستسلموا بفضل الله وإلقاء الرعب في قلوبهم، ثم بفضل قوة المسلمين وشجاعتهم.

وقد خرج رؤساؤهم لمقابلة خالد فخلا بأهل كل قصر دون الآخرين وخيرهم وقال: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة فقد آتيتكم والله بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.

فقال أولهم: بل نعطيك الجزية، فقال خالد: تبًّا لكم، ويحكم الكفر فلاة مضلة فأحمق العرب من سلكها.

العبر:

قال الدكتور الحميدي في التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، [مرجع سابق، ج: 9. ص: 147] قال:

لنا في هذا الموقف الجليل وقفات فهو أولاً يبين الهدف الأسمى من الجهاد في الإسلام، ألا وهو الدعوة إلى الإسلام وتبليغ الهداية للبشرية وإزالة الطواغيت من طريق الدعوة وليس التوسع في الممالك وفرض السلطان والتمتع بالحياة الدنيا للفاتحين.

وهو يبين أهم مقومات نجاح المسلمين في حروبهم، هذا النجاح الذي يقوم على الحرص الأكيد على الشهادة وابتغاء ما عند الله تعالى في الآخرة، ولا شك أن الذي يحرص على الموت يقاتل الأعداء بطاقته الكاملة غير مستبق بعضها للدفاع عن نفسه، أما الذي يقاتل وهو حريص على الحياة فإنه يصرف طاقته في استبقاء نفسه ليتمتع بثمرات النصر التي لا تعدو هذه الحياة الدنيا.

كما أن هذا الموقف يؤكد لنا حرص الصحابة رضي الله عنهم على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرغبة القلبية في هداية البشرية، حيث وبخهم خالد على اختيار البقاء على الكفر مع أن البقاء على الكفر ودفع الجزية فيه مصلحة مالية للمسلمين ولكن خالد من قوم هانت عليم الحياة الدنيا.

وفضلوا ما عند الله جل وعلا في الآخرة، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ بمثل قوله لعلي رضي الله عنه حينما أعطاه الراية يوم خبير: (بأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمر النعم).

وهكذا تحقق فتح الحيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج الطبري أنها كُشفت للنبي صلى الله عليه وسلم فرآها وشبهها بأضراس الكلاب، [بسبب شرفاتها المتراصة والله أعلم].

[المصدر: التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، مرجع سابق، ج: 9، ص: 145].

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٦٧ – الأحد ٢٠ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٤ رمضان ١٤٣٩هـ