من الخُلق الإسلامي الرفيع الذي يكاد يختفي من حياة المسلمين الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ولو بعد عهد طويل، ومن الأمثال المضادة لهذا الخلق النبيل قولهم (اتق شر من أحسنت إليه)، وعندما يسود خلق النذالة والخسَّة ونكران الفضل والجميل تضيع المروءة والشهامة والرجولة وتخسر البشرية هذا الخلق النبيل.

الدول الكبرى الآن تقول إنه لا صداقات دائمة بل الأمر أمر مصالح وقد انتقل هذا الخُلُق السياسي الهابط إلى بعض رجالات السياسة وإلى المتنفذين في ديارنا فعندما يتمكنون ويتولون الأمور أول شيء يقضون على من ساعدهم إلى الوصول لهذه المكانة العالية، هذه أخلاقيات يمقتها الإسلام والمسلمون.

فمن الفضيلة الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم.

والموقف الثاني يجسد هذا الخلق الرفيع.

الموقف الأول:

أخرج الإمام البخاري رحمه الله من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا أسرينا «أي سرنا ليلاً» حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها «أي ناموا نومًا عميقًا»، فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان – يسمهم أبو رجاء فنسي عوف «اسماؤهم» ثم عمر بن الخطاب الرابعُ «أي: في الاستيقاظ»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يُوقظ حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس «من طول النوم» وكان رجلاً جليدًا «أي: صلبًا قويًا رفيع الصوت» فكبَّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم «أي: من النوم العميق الطويل». قال: لا ضير – أي لا يضيرُ، ونودي بالصلاة؛ فصلى الناس، فلما انتقل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يُصلَّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابني جنابة. ولا ماء. قال: عليك بالصعيد «أي: التيمم بالتراب» فإنه يكفيك.

قال الدكتور عبدالرحمن الحميدي، المرجع السابق، ص139

في هذا الموقف مثل من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يلزمون الصمت والهدوء إذا كان نائمًا حتى لا يوقظوه، ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل هذا الشعور إلا أنه رأى ضرورة تنبيهه صلى الله عليه وسلم للصلاة «التي فاتهم وقتها بسبب النوم حتى طلعت الشمس»، فكان التكبير أفضل وسيلة لإيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم مع الحفاظ على لزوم الأدب معه صلى الله عليه وسلم.

الموقف الثاني:

وهو المقدمة لعنوان المقال:

ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا – كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف وفي رواية أنه عمران بن حصين كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، ودعا عليًا فقال: اذهبا فابتغيا ماءً فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين «أي: قربتين ماء كبيرتين» – أو سطيحتين من ماء على بعر لها فقالا لها، أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمسّ هذه الساعة ونفُرنا خلوف «أي: قومنا قد تخلفوا لطلب الماء».

قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: الذي يقال له الصابئ. قالا: هو الذي تعنين. فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث.

قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ففرغ فيه من أفواه المزادتين «القربتين» – أو السطيحتين – وأوكأ «أي: أغلق» أفواههما وأطلق العزالي «جمع عزلاء وهي مصب الماء من القربة»، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا – فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء ماء. قال: إذهب فأفرغه عليه: وهي «أي: المرأة» قائمة تنظر إلى ما يفعله بمائها. وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة «أي: بالماء» منها حيث ابتدأ فيها.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها – فجمعوا لها – من بين عجوة ودقيقة وسويقة – حتى جمعوا لها طعامًا فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: صلى الله عليه وسلم تعلمين ما رزئنا «أي: ما نقصنا» من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي سقانا.

فأتت أهلها، وقد احتبست «تأخرت» عنهم. قالوا: ما حبسك يا فلانه؟ قالت: العجب «وقصت عليهما ما حدث»، وقالت: فوالله إنه لأسحر الناس أو أنه لرسول الله حقًا.

الموقف الثالث:

وهو المعني بعنوان المقال:

فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها «أي: حول بيتها» من المشركين ولا يصيبون الصَّرم «أي: البيوت المجتمعة» الذي هي منه. فقالت يومًا لقومها: ما أرى؟ أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا «أي: يتركون قتالكم عمدًا»، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام.

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق، [ص: 193]: في هذا مثل من الأمن الكامل والطمأنينة التامة عند المسلمين لغير الأعداء المحاربين، فالمرأة المذكورة في الخبر قد واجهت جيشًا كبيرًا فظلت في حمايتهم وأمانهم، بل نالت من رفدهم وعطائهم مع أنهم لما ينقصوها من مائها شيئًا.

وفيه أيضًا مثل مما يتصف به المسلمون من خُلق الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ولو بعد عهد طويل، فهذه المرأة بسبب فضلها عليهم بذلك الماء ظل قومها آمنين في بلادهم من غزو المسلمين الذي كانوا يغيرون على من حولهم، ولقد قادهم هذا الخُلق النبيل من المسلمين إلى الدخول في الإسلام استجابة لدعوة تلك المرأة التي ذكرتهم بفضل المسلمين عليهم ويشتمل هذا الخبر على بيان معجزة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث نزلت البركة في ذلك الماء القليل حتى كفى جميع أفراد ذلك الجيش.

وهنا نذكّر أعداء الإسلام من اليهود بما صنعوه مع الخلافة الإسلامية العثمانية عندما آوتهم بعد طردهم من إسبانيا ثم أخذوا يكيدون للدولة العليّة العثمانية ويقلبوا الناس عليهم حتى أسقطوها بقيادة أحد أبنائهم كمال أتاتورك من يهود الدونمة.

علنا أن نقارن بين سلوك المسلمين في الموقف السابق وسلوك هؤلاء الغادرين، ونفس الشيء حدث مع الإنجليز الذين ساعدهم العرب في الحرب العالمية الثانية ثم اختلوهم وغدروا بهم ووطنوا اليهود في فلسطين وقسموا ديارهم مع الفرنسيين بسايكس – بيكو.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٦٤ – الخميس ١٧ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠١ رمضان ١٤٣٩هـ