النقد العلمي والحوار العلمي فن رفيع لا ينبغي الإقدام عليه إلاّ من المتقدمين في العلم، لأن الناقد يتعرض بفكره وعلمه ونقده لفكر الآخرين لنصر قضايا وإبطال أخرى، فإذا لم يكن متمكنًا في العلم وأسلوب الحوار فشل في أداء المهمة وأحدث آثارًا سيئة في الحياة العلمية وتسبب في فتنة بين المتنازعين، ولكنه إذا كان متمكنًا في العلم مخلصًا في مقصده وأحسن العرض في نصر القضية التي يريد نجاحها فإنه يسهم في تصحيح المفاهيم وتقويم القضية، ومن أهم مجالات النقد العلمي المناظرات فهي مواجهة صريحة أمام الملأ فلا يمكن معها استغفال العقول ولا تلبيس الحق بالباطل. (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، مرجع سابق، ج: 18. ص: 467).

وفي الموقف التالي يتجلى علم ابن عباس رضي الله عنه وإخلاصه وأسلوبه الحواري الرصين:

الموقف:

قال ابن عباس رضي الله عنه: لما اعتزلت الحرورية (الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه)، فكانوا في دار على حدتهم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة «أي: أخر صلاة الظهر حتى يبرد الجو» لعليَّ آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك، قلت: كلا إن شاء الله.

قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون «من القيلولة» في نحر الظهيرة، قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم ؛ أيديهم كأنها ثَفَن الإبل «كأنها رُكب الإبل من الخشونة» ووجوههم مُعْلمة من آثار السجود.

قال: فدخلت فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس: ما جاء بك؟ قلت: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه، وقال بعضهم: والله لنحدثنه.

قال ابن عباس: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه «أي: زوج بنته»، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثًا: قال: قلت: وما هنّ؟

قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله وقد قال الله «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ» (الأنعام: 57).

قال: قلت: وماذا؟ قالوا: وقاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلّت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليهم دماؤهم.

قال: قلت: وماذا؟ قالوا: مَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

قال ابن عباس: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون أترجعون؟

قالوا: نعم.

قال: قلت: أما قولكم حكّم الرجال في دين الله فإن الله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ» (المائدة: 95).

وقال في المرأة وزوجها «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» (النساء: 35).

قال ابن عباس: أنشدكم الله أحكم الرجال في حق دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟

قالوا: اللهم في حق دمائهم وإصلاح ذات بينهم، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم إنه قاتل ولم يَسْب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم؟ وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام. إن الله يقول: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» (الأحزاب: 6)، فأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتها شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشًا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابًا، فقال: اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال: والله إني لرسول الله حقًا، وإن كذبتموني، اكتب يا علي محمد بن عبدالله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي رضي الله عنه، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم، فرجع منهم عشرون ألفًا وبقي منهم أربعة ألاف فقتلوا. (رواه الطبراني وأحمد ببعضه ورجاله رجال الصحيح). والصحيح أن عددهم كان أربعة آلاف ثم زادوا حتى صاروا ستة آلاف أو ثمانية آلاف. (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، ج: 18. ص: 471. مرجع سابق).

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في المرجع السابق: فهذا الخبر العظيم يدل أولاً على جرأة عبدالله بن عباس رضي الله عنه الفائقة وشجاعته الفذة، فقد أقدم على الخروج إلى الخوارج ومناظرتهم وحده، مع أن هناك احتمالا أن يعتدوا عليه بالقتل أو بما دون ذلك، ولقد بلغ منتهى الشجاعة والإقدام حينما وصفهم أثناء المناظرة بالضلال.

وقال: ثم إن هذا الخبر دليل على غزارة علم ابن عباس رضي الله عنه وعمق فهمه، فقد أدرك من عرض الخوارج لعقيدتهم أنهم على ضلال، واستحضر حالاً من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما ينقض قولهم، ويبطل رأيهم، وكان موفقًا في عرض تلك الأدلة وإلزام المخاصمين بما يترتب عليها من أحكام.

ولما كان ابن عباس يعرض الحق الذي لا يمكن نقضه، فإن المخدوعين من الخوارج الذين كانوا يظنون أنهم على الحق وليس لهم هوى في الشذوذ والانحراف لما سمعوا ذلك الحق رجعوا إليه وعرفوا أنهم على باطل، وكان عددهم كبيرا. انتهى.

وبهذا الحوار والنقد العلمي أجلى ابن عباس الأمور ووأد الفتنة.

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

وبهذا الحوار الناجح رجع أكثر الخوارج ولم يبق منهم إلا أربعة آلاف وهم الذين قتلوا يوم النهروان، وكانوا بقيادة عبدالله بن وهب الراسبي، فكم وفّر ابن عباس رضي الله عنه عن الأمة من جهد، وكم حقن لها من دماء؟!

إن أولئك الراجعون لو ظلوا على ضلالهم وعلى تبعية رؤسائهم لتسلطوا على الأمة بالسيف، وإن قتل هؤلاء أو تمت هزيمتهم لا بد أن يقدم فيها أهل الحق عددًا كبيرًا من الشهداء، إضافة إلى أن هلاكهم وهم على ضلالتهم يقودهم إلى النار، فيكون ابن عباس جعله الله تعالى سببًا في إنقاذهم من النار، وفي إنقاذ الأمة من شرهم وبلائهم.

ولقد كانت محادثات ابن عباس مع قادتهم، لأنه لم يتمكن من حوار أربعة وعشرين ألفًا، أو حتى ثمانية آلاف هائج جانح جاهل. ولقد انقسم قادتهم على أنفسهم قبل بدء الحوار. وكان مجرد وصول ابن عباس إليهم سببًا في تفرق رأيهم، ما يدلل على ضحالة معتقدهم وقلة علمهم وغلبة العواطف والحماس عليهم.

ومن براعة ابن عباس في الحوار أنه لم يجب عن كل سؤال لهم بمفرده، بل استوعب اعتراضاتهم الثلاثة، ثم قام بنقضها، ولو أنه أجاب عن الاعتراض الأول لربما توقفوا وأمسكوا عن بيان الاعتراضين الأخيرين، ولن يتوصل إلى إقناعهم بما يريد.

وكما قال الدكتور الحميدي: وهكذا كان دور العلم بارزًا ورائدًا في ذلك الصراع الذي نشب بين الخوارج من جهة والخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جهة أخرى، فكان العلم النافع الذي حمله ابن عباس ومثّله أبلغ تمثيل أمضى في الأعداء من جميع الأسلحة، وأهدى للحيارى المخدوعين من طلاسم الجهل وشعارات أنصاف المتعلمين.

ومما يؤسف عليه هذه الأيام أن بعض الجهلاء يرمون المختلفين معهم سياسيًا بالخوارج ويستحلون دمائهم ويحرضون عليهم وهذا خطأ فادح يتحمل من يقع فيه مسؤولية نتائج الفتوى بأنهم خوارج يستباح قتلهم، وهذا من قلة العلم وضحالة الفهم وانعدام الفقه؛ أعاذنا الله وإياكم من شر هذا الجهل والجهلاء.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٨ – الخميس ٣١ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١٥ رمضان ١٤٣٩هـ