يقولون: العدل أساس الملك، فمن أقام سلطان العدل أقام الله سلطانه وحفظ ملكه وأدامه، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في الحسبة: يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظاملة ولو كانت مؤمنة، فلما أقام نور الدين محمود؛ العدل وأنشأ دار العدل وطبق العدل على نفسه والتابعين لإدارته نصره الله تعالى على الصليبيين، ومن أعماله الجهادية تلك الحملة التأديبية التي قام بها لتأديب الفرنج لما استولوا على مركبين تجاريين للمسلمين، فقام بحملة واسعة فيما تبقى من أملاكهم حتى خضعوا وسلّموا ما أخذوا بذلة وصغار كما قال ابن الأثير في (الكامل 113/9).

الموقف الأول:

مواقف السلطان نور الدين محمود الأخلاقية في مجال العدل والورع وخشية الله تعالى كثيرة ومشهورة، فمن ذلك ما ذكر المؤرخ ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، حيث يقول: حكى لي من أثق فيه أنه دخل يومًا إلى خزانة المال فرأى فيها مالاً أنكره فسأل عنه فقيل: إن القاضي كما الدين أرسله، وهو من جهة كذا وكذا، فقال: إن هذا المال ليس لنا، ولا لبيت المال في هذه الجهة شيء، وأمر بإعادته إلى كمال الدين ليرده إلى صاحبه، فأرسله متولي الخزانة إلى كمال الدين، فرده كمال الدين إلى الخزانة مرة أخرى وقال: إذا سألك الملك العادل عنه فقولوا له عني: إنه له، فدخل نور الدين محمود على الخزانة مرة أخرى فرأى المال فأنكر على النواب «الموظفين» وقال: ألم أقل لكم: يعاد هذا المال إلى أصحابه؟!

فذكروا له قول كمال الدين، فرده إليه وقال للرسول: قل لكمال الدين أنت تقدر على حمل هذا المال، وأما أنا فرقبتي دقيقة لا أطيق حمله والمخاصمة عليه بين يدي الله تعالى، يُعاد قولاً واحدًا.

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي، (المرجع السابق، ص: 315).

هذا الخبر فيه مثل مما كان يتصف به السلطان نور الدين محمود من الورع وخشية الله تعالى والتحري في الأموال واتقاء الشبهات فبالرغم من أن ذلك المال قد أتى عن طريق القاضي كمال الدين الشهروري وهو المعروف بعلمه وتقواه – فإن نور الدين محمود قد رفض قبوله لأنه قد دخل مجال الشبهات فخاف أن يحاسبه الله تعالى عليه يوم القيامة.

الموقف الثاني:

من روائع السلطان نور الدين محمود في القضاء وإقامة العدل والإنصاف من الأمراء والقادة إنشاء دار العدل في دمشق، وكان سبب إنشائها تزايد سلطان عدد من كبار الأمراء وتجاوز بعضهم حقوق بعض، وعدم خضوع بعضهم لسلطة الحاكم الشرعي – فلما علم بذلك نور الدين أمر ببناء دار العدل.

يقول ابن الأثير في الكامل: فلما سمع شيركوه كبير أمراء نور الدين وهو الذي استولى على مصر وقضى فيها على الصليبيين والعبيديين؛ بذلك أحضر بوابه جميعهم وقال لهم: اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلاّ بسببي وحدي، وإلا فمن هو الذي يمتنع على كمال الدين قاضي القضاة كمال الدين الشهروزي الذي سبق ذكره.

والله لئن حضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنّه، فأمضوا إلى كل من بينكم وبينه منازعة في ملك فافصلوا الحال معه وأرضوه، بأي شيء أمكن ولو أتى على جميع ما بيدي.

فقالوا له: إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا في الطلب، فقال: خروج أملاكي من يدي أسهل عندي من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم، أو يساوي بيني وبين آحاد العامة في الحكومة – أي القضاء – فخرج أصحابه من عنده وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصمائهم وأشهدوا عليهم، فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها فصل الحكومات «القضايا»، فلم يحضر عنده أحد يشكو من أسد الدين، فعرفه الحال. فقال: الحمد لله إذا أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا (نور الدين محمود – 76، نقلاً عن المرجع السابق، ص: 318).

العبر:

ولقد كان التفكير في إنشاء دار العدل في غاية الروعة والسمو، حيث أصبح بإمكان نور الدين محمود أن ينصف جميع المظلومين من ظالميهم وإن كانوا من أصحاب المناصب العليا، وكان مجرد إنشاء هذه الدار كافيًا لإيقاف الظالمين من الولاة عن الظلم خشية أن يستدعوا إلى تلك الدار فيقفوا مع أصحاب الحقوق.

وهكذا يكون العدل الكامل، إن كمال العدل لا يكون بإنصاف المظلومين من الظالمين الضعفاء أو المتوسطين فقط، وإنما يكون بشمول العدالة والإنصاف جميع الناس، وإن كانوا من الكبراء المتجبرين.

ويقول أبو شامة (نقلاً عن المرجع السابق)، في بيان عدالة السلطان نور الدين وكان نور الدين يجلس في دار العدل، ويأمر بإزالة الحاجب والبواب، حتى يصل إليه الضعيف والقوي والفقير والغني، ويكلمهم بأحسن الكلام ويستفهم منهم بأبلغ نظام حتى لا يطمع الغني في دفع الفقير بالمال، ولا القوي في دفع الضعيف بالمال، ويحضر في مجلسه العجوز الضعيفة التي لا تقدر على الوصول إلى خصمها ولا المكالمة معه، فتغلب خصمها طمعًا في عدله، ويعجز الخصم عن دفعها من عدله، فيظهر الحق عنده، فيجري الله على لسانه ما هو موافق للشريعة، ويسأل العلماء والفقهاء عما يشكل عليه من الأمور الغامضة فلا يجري في مجلسه إلاّ محض الشريعة. (عماد الدين خليل، نور الدين محمود؛ ص: 76-77. نقلاً عن المرجع السابق).

وهكذا كانت إشاعة العدل سببًا في تقوية الضعفاء حتى يأخذوا حقوقهم غير متعتعين ولا خائفين، كما كانت سببًا في إضعاف الأقوياء الذين تميل نفوسهم نحو الظلم فيحصل بذلك إرتداعهم عن التفكير في الظلم، وبهذا تتقلص قضايا الاعتداءات ويعيش الناس في أمن وأمان. (التاريخ الإسلامية مواقف وعبر، مرجع سابق، ج: 15. ص: 319).

وبذلك أقام نور الدين محمود سلطان العدل في دولته فأقام الله سلطانه ومكن له في الأرض ونصره على أعدائه، وحسنت سيرته ونصره الله على عدوه وعلى شياطين الإنس المفسدين في الأرض.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٧ – الأربعاء ٣٠ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١٤ رمضان ١٤٣٩هـ