ما أحوج المسلمين اليوم إلى متنفذين وقيادات أذكياء، وخاصة أن معركة المسلمين مع أعدائهم أصبحت في هذا الزمان تعتمد في أكثر مراحلها على التفوق العلمي والفكري، ولطالما استفاد القادة المسلمون من العباقرة في تذليل الصعوبات وحل المشكلات وإخضاع الأعداء للخطط التي يريدونها، ولطالما جنبوا أمتهم تضحيات كبيرة في الأنفس والأموال بسلوك الخطط التي يرسمها الأذكياء أهل العلم والخبرة الميدانية.

والموقف التالي يبين ذكاء أحد قادة المسلمين وإفلاته من قبضة العدو بعدما رأى معسكرهم وعاين استعداداتهم فأصبح أجرأ على حرب الأعداء وعرف مكامن ضعفهم وقوتهم فالتقوا اللقاء الحاكم الذي انهزم به الأعداء.

وقد فطن قادة الجيش المصري إلى أهمية العلم والذكاء في الانتصار على الصهاينة بعد نكبة 1967م، باستبدال الجندي الأميّ غير المتعلم بالجندي خريج الجامعة حامل الدرجة العلمية الدالة على علمه وذكائه فكتب الله لهم النصر في أكتوبر 1973 في رمضان المعظم.

الموقف:

في قتال الروم وجد عمرو بن العاص رضي الله عنه نفسه بين قوتين كبيرتين، قوة ترابط داخل بيت المقدس، وقوة تحصنت بأجنادين، وذلك كله تحت قيادة الأرطبون وكان أدهى الروم وأبعدها غورًا، وأنكاها فعلاً، وقد رابط بأجنادين.

وبعث عمرو جيشًا لحصار بيت المقدس بقيادة علقمة بن حكيم الفراسي ومسروق بن فلان العكي، وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة وكان بها جيش تابع للأرطبون فلما أمن عمرو على جيش من هذه القوات توجه إلى القوة الكبرى في أجنادين وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرحل فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد.

وقال أرطبون الروم في نفسه:

والله، إن هذا لعمرو بن العاص أو أنه للذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله، ثم دعا حرسه فسارّه بقتله، فقال: أخرج إلى مكان كذا وكل، فإذا مرّ بك عمرو فاقتله.

وفطن عمرو لذلك، فقال للأرطبون: قد سمعت مني وسمعت منك، وأما ما قلته فقد وقع مني موقفًا أي فهمته، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي «قائد الجيش» لنكاتفه ويشهدنا أموره، أفأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير «أي قائد الجيش»، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك، فقال الأرطبون: نعم.

ودعا الأرطبون رجلاً فسارّه، وقال: اذهب إلى فلان فردّه إليّ، فرجع إليه الرجل «الموكل بقتل عمرو».

وقال الأرطبون لعمر: انطلق فجيء بأصحابك فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها أبدًا.

وعلم الأرطبون بأنه خدعه فقال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق فبلغت عمر بن الخطاب فقال: غلبه عمور لله عمرو. (تاريخ الطبري 3/605).

لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما علم بمواجهة عمرو بن العاص لأرطبون الروم: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج، وقد انفرجت عن استخدام ذكي من عمرو لما وهبه الله تعالى من الدهاء، عرف به مداخل العدو ومخارجه ومواطن قوته وضعفه.

العبر:

كان أرطبون الروم من الذكاء والدهاء بحيث عرف أن عمرًا وقد جاء على هيئة رسول ليس رجلاً عاديا بل هو رجل يحمل همًّا كبيرًا وقد هيمن على نفسه فجعله يستعمل كل طاقته في تعرّف المواقع والرجال والسلاح وكل ما يتعلق بالحرب ولم يكن مجرد رسول لقائد الجيش يؤدي الرسالة وهو غافل عن استكشاف قوة العدو وخفاياه.

وكان عمرو بن العاص ذكيا بارعًا في دهائه حينما أدرك ما أراده به الأرطبون من قراءة ذلك في وجهه وما قام به من تصرف يوحي بإرادته الغدر به، وقد أعطاه الله سبحانه وتعالى فراسة وكان يرى بنور الله في قلبه، فابتكر بسرعة فائقة هذه الحيلة التي استطاع بها أن يقنع الأرطبون ويتخلص منه، ولا شك أن عمرًا كان أدهى وأذكى منه، لأن أرطبون الروم لم يستطع إخفاء ما أراد في نفسه بل ظهر ذلك على وجهه حتى أدرك ذلك عمرو، بينما استطاع عمرو أن يعرض خطته وخدعته ببساطة وكان أملك لأعصابه ومشاعره مع أنه كان في مقام الخوف، ومن المعلوم أن الخوف يظهر على الوجه واللسان، لكن عمرًا لم يظهر على وجهه أيّ تغيير ولم يفقد شيئًا من رباطة الجأش وفصاحة اللسان وقوة الأعصاب، حتى خفي أمره تمامًا على أرطبون الروم وطمع في إفناء عشرة من مفكري المسلمين بدلاً من واحد. (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، المرجع السابق، ص: 124).

ويقال في بعض الروايات أن عمرًا سمع رجلاً يسير إليه في الطريق إلى بوابة معسكر الأعداء: «يا عمرو كما أحسنت الدخول أحسن الخروج» وكان هذا الرجل يعرف عمرًا من لقاءاته أثناء التجارة في الشام.

يقول الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

ألا ما أحوج المسلمين اليوم إلى متنفذين وقادة لهم بذكاء عمرو ودهائه، وخاصة أن معركة المسلمين مع أعدائهم أصحبت في هذا الزمن تعتمد على أكثر مراحلها على التفوق العلمي والعقلي ولطالما استفاد القادة المسلمون من العباقرة في تذليل الصعوبات وحل المشكلات وإخضاع الأعداء للخطط التي يريدونها، ولطالما جنبوا أممهم تضحيات كبيرة في الأنفس والأموال بسلوك الخطط التي يرسمها العباقرة وتوجيه أذكيائهم ووجهائهم للتفاوض مع الأعداء. انتهى..

علينا أن نختار لجيوشنا أذكى الطلاب، ونختار لوزارات خارجيتنا أدهى الأبناء وأذكاهم بعد تعليمهم وتعلّمهم فنون الحياة وتدريبهم واختبارهم وعدم المجاملة أو المحسوبية أو الفساد في هذه الوظائف والمهام المهمة في حياة الأمة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٠ – الأربعاء ٢٣ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٧ رمضان ١٤٣٩هـ