كم من حكام حكموا ديارهم عشرات السنين تسلموها دائنة وتركوها مدينة، نشروا الفساد والجهل والمرض، لم يجد الجاهل مدرسة معتبرة يتعلم فيها، وافتقد الفقير إلى مصحة يتعالج فيها، زرع الفساد في البلاد كما تزرع الحبوب في الحقول، وأنبت النفاق في أيامه كما ينبت العشب الضار وسط الحقول المهملة، هذا نمط خرج من الدنيا وقد حمل أطنانًا من الذنوب على عاتقه.

وكم من حكام حكموا أياما معدودة تسلموا ديارهم مهملة وتركوها معمرة، أقاموا المدارس الحديثة والمستشفيات المجانية للجميع.

ومواقفنا اليوم عن الطيّان الذي حكم أشهرا معدودة ففاض المال، وسدد ديون غير القادرين على السداد، وزوج غير القادرين على الزواج، وعلّم الناس، وعدل بينهم وضرب اروع الأمثلة للحاكم العادل الصالح التقي الورع.

الموقف:

أخرج ابن عبدالحكم رحمه الله، قال: قدمت امرأة من العراق على عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فلما صارت إلى بابه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟! فقالوا: لا. فَلِجي «أي: ادخلي بيته» إن أحببت. فدخلت المرأة على فاطمة زوج الأمير بنت الأمير وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه. فسلمت فردت عليها السلام؛ وقالت لها: ادخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها فلم تر في البيت شيئًا له بال، أي له قيمة. فقالت: إنما جئت لأعمّر بيتي من هذا البيت الخرب فقالت لها فاطمة: إنما خرّب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك.

قال: فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار، فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان يحضره البيت، وهو يكثر النظر إلى فاطمة، فقالت لها المرأة: اشتري من هذا الطيّان فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت فاطمة، ليس بطيان، هو أمير المؤمنين.

قال: ثم أقبل عمر فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلّى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه، ثم أقبل عليها فقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس بنات كُسّل كُسّدٍ، فجئتك ابتغي حسن نظرك لهن.

فجعل يقول: كُسل كُسدٍ، ويبكي، فأخذ الدواء والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال عمر: سمِّي كُبراهن، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة الحمد لله، ثم سال الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربع استنفزها الفرح فدعت له فجزَّته خيرًا، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهن حيث كنت تُوْلين الحمد أهله أي الله فَمُري هؤلاء الأربع يُفِضْن على هذه الخامسة.

فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء فقضى لها حاجتها وفرض لبناتها. (سيرة عمر بن عبدالعزيز، لابن عبدالحكم، 169. نقلاً عن المرجع السابق، ص: 101).

العبر:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في المرجع السابق:

شهادة تلك المرأة على زهد عمر بن عبدالعزيز حيث لم تجد في بيته شيئًا يُذكر من الأثاث فيئست من الحصول على ما يصلح شأنها من صاحب ذلك البيت الخرب، ولكن زوجة عمر فاطمة بنت عبدالملك طمأنتها، حيث بينت لها أن خراب بيت أمير المؤمنين، إنما هو بسبب عمارة بيوت الرعية، حيث اقتصد في الإنفاق على أسرته وأقاربه ووسع في الإنفاق على الراعية.

في الموقف تواضع عمر بن عبدالعزيز البالغ، وقد ظهر ذلك في قيامه بإصلاح ما خرب من بيته بنفسه، حيث صار يخلط الطين ويصلح به ما تهدم من بيته، حتى ظنته تلك المرأة طيّانًا «أي: يعمل الطين»، وحيث قام بعد ذلك بانتقاء جيد الفاكهة ومناولته تلك المرأة المسكينة.

ولا شك أن تواضع الكبار وقيامهم بمثل هذا العمل المدهش، يعتبر من أهم أسباب تقوية المحبة وتثبيت الولاء كما أنه أبلغ الوسائل لتربية الأمة على التواضع لأنه من في قلبه ميل إلى الكبر سيجد في نفسه صدودًا عن ذلك، وقناعة بالاعتدال في السلوك، تأسيًا بأولئك الأكابر.. انتهى.

كما يتضح في الموقف كما قال الدكتور الحميدي اهتمامه بأمر تلك المرأة المسكينة، حيث فرض لها ولبناتها ما يكفيهن من بيت مال المسلمين، بينما في مواقف أخرى نجده متصلبًا في معاملة الأكابر الذين يريدون أن يأخذوا من مال المسلمين ما لا يحل لهم، فهو لين متواضع لأصحاب الحق وطلابه، قوي على طلاب الباطل.

وفي جواب عمر لتلك المرأة حينما شكرته لما فرض لبنتها الرابعة بعد أن كانت تشكر الله تعالى، حيث أوقف فرض العطاء لبنتها الخامسة، وأمرها أن تفيض عليها من عطاء أخواتها، وهذا الموقف يبين عظمة فهم عمر لتوحيد الله تعالى، ومبلغ تذكره لعظمته، وحمده لنعمته، وقد قام بما قام به من هذا التصرف ليعطي تلك المرأة وغيرها درسًا عمليًا لا ينسى في التوحيد هو أبلغ من الدروس النظرية.

وليس معنى هذا أن شكر المحسنين والدعاء لهم يتنافى مع التوحيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من لم يشكر الناس لم يشكر الله (رواه أحمد)، ويقول صلى الله عليه وسلم: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروْا أنكم قد كافأتموه (سنن أبي داود، ومسند أحمد).

وعمر بن عبدالعزيز أعلم بالسنة، ولكن بدأت تلك المرأة بحمد الله تعالى، ثم قطعت ذلك وتحولت إلى شكر عمر وهو الدعاء له أحس عمر بأن ذلك مخل بالتوحيد لأن فيه إشعار بتقديم شكر المخلوق على شكر الخالق جل وعلا. (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، مرجع سابق، ج: 15. ص: 102).

كما أن سلوك والي العراق يبين مدى حفظ الولاة لحقوق واحترام الخليفة حتى بعد موته، وسلوك الوفاء هذا يندر وجوده بين المتنفذين الذي يخافون إبداء الولاء للحاكم السابق فيغضب عليهم الحاكم الجديد تحت مبدأ أهل جهنم. «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا» (الأعراف: 38).

إنها القيم الحضارية والإنسانية التي بنى على أساسها المسلمون الحضارة الإسلامية الزاهرة التي يتيه الزمان بها، تلك الحضارة التي خفت صوتها، وخبت حرارتها وانطفأ نورها عندما غيرنا ما بأنفسنا من هذا السلوك الإسلامي الحضاري القويم إلى التبعية والذل واللهث خلف حضارة غير المسلمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٥ – الاثنين ٢٨ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٣٩هـ