بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتحها لموقعها الجغرافي على باب قارة أوروبا ولأهميتها في الوصول إلى آسيا وإفريقيا وبلاد العرب بالذات فقال صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» (رواه أحمد).

فتاقت نفوس المسلمين لفتحها وتمنى كل قائد أن يقود جيشها، وكل جندي أن ينتمي إلى جيشها ويشارك في فتحها.

حاول الصحابة فتحها في العهد الأموي وقاتل المسلمون حول أسوارها ومات أبو أيوب الأنصاري رحمه الله ودفن قريبًا من سورها، وفي العهد العباسي حاول المسلمون فتحها وقاد هارون الرشيد جيش المسلمين في عهد أبيه المهدي وبعد توليه الخلافة، وسار هارون الرشيد بالجيش حتى بلغ الخليج المؤدي إليها وجاءت الدولة العثمانية وتحقق الفتح الذي كان أملاً كبيرًا يتمنى قادة المسلمين تحقيقه منذ سماعهم الحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش).

فكان أمير الجيش هو السلطان محمد الفاتح بن السلطان مراد، ولقد لقب بالفاتح لما تم على يديه من فتح القسطنطينية الذي يعتبر من أعظم فتوحات المسلمين كما قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر؛ (ج: 13، ص: 99):

الموقف الأول

لقد كان واضحًا لسلاطين آل عثمان أن فتح القسطنطينية لا يتم إلاّ من جهة أوروبا لكونها محاطة من جهة آسيا بالبحر فلذلك عقدوا العزم على توسيع فتوحاتهم في شرق أوروبا، ثم نقلوا عاصمتهم إلى أدرنة بعد فتح جزء كبير من أوروبا فأصبحوا يستطيعون حصار القسطنطينية من جميع جهاتها بعد أن صارت مملكة صغيرة في داخل امبراطوريتهم الواسعة فكانت هذه الأعمال الجهادية السابقة تمهيدًا لما قام به السلطان محمد الفاتح رحمه الله من فتح هذه المدينة، ولما عزم السلطان الفاتح على فتح القسطنطينية زحف بجيش يبلغ خمسين ألفًا ثم سيطر على جميع منافذ المدينة حتى لا يصل إليها مدد من الخارج. وقد عرض السلطان الفاتح على ملك الروم قسطنطين أن يسلم المدينة في مقابل سلامة جميع من فيها على أرواحهم وممتلكاتهم، فرفض قسطنطين ذلك، ولما كان لابد من الحرب فإن السلطان أمر برمي أسوار المدينة بالمدافع الحديثة والقوية.

وخاطب الفاتح قادته بقوله: إن تم لنا فتح القسطنطينية تحقق: منذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزة مع معجزاته، وسيكون نصيبنا وقدرنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.

العبر:

هذا الخطاب يبين لنا ارتباط الفاتح الوثيق بالدين واستمداده النصر من الله تعالى، وأنه كان يقاتل على عقيدة دينية قوية وقد أشاع هذه العقيدة في جنده حتى أصبحوا يقاتلون بهمة عالية، إلى جانب الأخذ بالأسباب والتزود بالسلاح الحديث القوي، وإذا اجتمعت القوتان المعنوية الإيمانية والمادية حصل النصر بإذن الله تعالى. (المرجع السابق، ص: 101).

الموقف الثاني:

كان أقرب مكان للسيطرة على القسطنطينية من البحر من ناحية القرن الذهبي، وكان الروم يدركون خطورته فوضعوا في مدخله سلسلة حديدية ضخمة، وقد حاول المسلمون قطع السلسلة فلم يستطيعوا لقوة الحامية المكلفة بالحراسة من الروم.

فكر السلطان الفاتح في خطة لنقل السفن من مضيق البسفور إلى داخل القرن الذهبي عن طريق البر مسافة ستة أميال، ولما وافق المستشارون على الخطة أمر الفاتح بتمهيد الأرض ومد ألواح الخشب المدهون بالزيت والشحم ثم قام الجنود بسحب السفن عليها، وقد أذهلت هذه الخطة الأعداء وحطت من معنوياتهم الحربية، حيث أصبح بإمكان سفن المسلمين أن تضرب الأعداء عن قرب وأن تشل حركة الملاحة البحرية لهم.

ومن الخطط التي استخدمها المسلمون حفر الأنفاق لإدخال الجنود إلى المدينة.

وصنع المسلمون برجًا خشبيًا مرتفعًا من ثلاثة طوابق يعلو سور الأعداء تم بناء هذا البرج كما قال المؤرخون في ليلة واحدة بل في أقل من أربع ساعات وهو يحتاج إلى شهر لبنائه.

الموقف الثالث:

حينما استنفد السلطان الفاتح مقاصده في تحطيم معنويات الأعداء وهدم أجزاء من الأسوار خطط للهجوم الشامل من البر والبحر فأمر بالهجوم من جميع الجهات وانطلق الجنود بشكل مكثف، لكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من الأعداء وسقط عدد من المسلمين شهداء تحت الأسوار، ولكن ذلك لم يفت في عزائم المسلمين واستمروا في الهجوم، واستطاع أحد الجنود الأتراك أن يقتل قائد الأعداء في المنطقة الشمالية ومبارزة. وبمقتله انهارت معنويات فرقته وولى أفرادها هاربين.

انتهز السلطان هذه المنحة فدفع بأفراد فرقة الإنكشارية المشهورين بالشجاعة والمغامرة إلى ذلك المكان فاندفعوا كالسيل الجارف ودخلوا المدينة ورفعوا فوق أسوارها أعلام العثمانيين المسلمين.

وأصيب قسطنطين بالفزع والذعر الشديد فنزل عن حصانه وخلع ملابسه القيصرية وصار يدافع بسيفه حتى قتل.

وفتحت جميع أبواب المدينة بعد أن فرّ حماتها، وتم فتح هذه المدينة العريقة التي استعصت على جميع الغزاة وتحقق في الأمير محمد الفاتح الشاب وجنوده بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وثناؤه العظيم. (المرجع السابق، ص: 104).

الدروس:

من فتح القسطنطينية نستخلص العديد من الدروس منها:

– أهمية العقيدة الصحيحة في رفع الهمم والعمل بإخلاص وصواب.

– الأخذ بالأسباب العلمية العصرية ضرورة لتحقيق النصر والتمكين.

– القيادة الشابة المخلصة والجيش المدرب والمحصن بالإيمان قادر على الإبداع وعمل الكرامات والثبات على الحق.

– أهمية الذكاء والإبداع والعلم والمهارة والهمة العالية في تحقيق الأهداف.

– أهمية التقنية في النصر والتمكين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٤ – الأحد ٢٧ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ١١ رمضان ١٤٣٩هـ