اشتهر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالشجاعة والقضاء، واليوم نعرض عليكم جانبًا من الحكم التربوي للإمام الدالة على حكمته وهمته العالية في التربية الإسلامية.

الموقف الأول:

روى عبدخير الهمداني رحمه الله عن الإمام علي رضي الله عنه قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلاّ لأحد رجلين، رجل أذنب ذنبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يقلّ عمل في تقوى، وكيف يقلُّ ما يتقبّل. (حلية الأولياء 1/75. صفة الصفوة 1/321).

العبرة:

في هذه الوصية يبين لنا الإمام علي رضي الله عنه مقياس الخيرية والأفضلية في هذه الحياة الدنيا، فأفضل الناس ليس أكثرهم مالاً ولا أولادًا كما يفهم الجاهلون، بل أفضلهم أعلمهم بالله تعالى وأكثرهم حلمًا، والعلم إذا لم يوصل إلى خشية الله تعالى وتقواه فليس بعلم نافع والحلم يكون خلقًا متوارثًا ويكون مكتسبًا، والحلم المكتسب يكون أثرًا من آثار العلم بالله تعالى، كما قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق ويشير الإمام علي رضي الله عنه إلى الأمر العالي الذي يجب أن يكون التنافس عليه في هذه الحياة الدنيا، وهو عبادة الله تعالى، وليس المقصود بالمباهاة بالعمل الصالح مراءات الناس وإنما المقصود وضوح الهدف العالي الذي يجب أن يتنافس المسلمون على بلوغه ألا وهو بذل الجهد في عبادة الله تعالى.

ويبين الإمام علي رضي الله عنه أن الذين يستفيدون من بقائهم في هذه الحياة الدنيا هم الذين يُعمِّروها بصالح الأعمال التي يتزودون بها للحياة الآخرة سواء في ذلك الذين يكسبون هذه الأعمال الصالحة لرفع رصيدهم الأخروي أو الذين يعملون من أجل الدنيا فهم من ضعاف العقول لأن أنظارهم قصرت على دار الزوال ولم تطمح إلى دار الخلود فلا خير في أعمالهم. (انظر المرجع السابق، ص: 435).

الموقف الثاني:

ونجد الإمام علي رضي الله عنه في موقف آخر يحذرنا من داءين خطيرين هما اتباع الهوى وطول الأمل حيث يقول: إن أخوف ما أخاف اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، ألا وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل. (حلية الأولياء: 72/1. صفة الصفوة: 321/1. نقلاً عن المرجع السابق).

العبرة:

الداء الأول هو اتباع الهوى، وقد بين الإمام علي رضي الله عنه أنه يصد عن الحق، وذلك أن الذي يتبع هواه يسد منافذ فكره فلا يصل نور الحق إلى عقله.

والداء الآخر طول الأمل، وقد ذكر أنه ينسي الآخرة، وذلك أن الذي يعيش مع أحلام الدنيا تستهويه هذه الأحلام فيسخّر فكره للتخطيط للمسقتبل الدنيوي فقط، وينسى العمل للمستقبل الأخروي (المرجع السابق).

ثم يصور الإمام علي رضي الله عنه زوال الدنيا بالراحل المدبر، فالذي يتبع ذلك قد انخدع بالسراب ولن يصل إلى النعيم الحقيقي، ويصور الآخرة بالقادم المقبل، وأنه ليس من العقل السليم أن ينشغل الإنسان بالمدبر الفائت عن المقبل المحقق.

الموقف الثالث:

 قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتفاعي بكتاب كتب به إلى عليّ بن أبي طالب فإنه كتب إليّ: أما بعد فإن المرء يسوءه فوْتُ ما لم يكن ليدركه، ويسره دَرْك مالم يكن ليفوته، فليكن سرورك ما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرنّ به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنًا، وليكن همك فيما بعد الموت. [(صفة الصفوة 327/1).

العبرة:

إنها وصية نافعة حقًا حيث ركز فيها الإمام علي رضي الله عنه على جميع الفكر وتسخيره للنظر في أمور الحياة الآخرة وقد بدأ بمقدمة يؤمن بها جميع العقلاء وهي أن الإنسان العاقل يسره إدراك ما يحب ويسوءه فوات ذلك عليه، وإذا كان الأمر كذلك وعرفنا حقيقة أخرى يدركها كل مسلم وهي أن الآخرة دار الخلود وأن نعيمها هو النعيم المقيم والحقيقي الذي لا يخالطه كدر، وأن الدنيا شقاؤها هو الشقاء الحقيقي الذي لا يخالطه سعادة، إذا عرفنا ذلك فإن من كمال العقل وسداد الرأي أن يسعى المسلم إلى إدراك ما يحب من أمر الآخرة والندم على ما فات منها، وأن لا يشغل نفسه عن ذلك بأمور الدنيا الزائلة. (المرجع السابق، ص: 437).

وهنا يجب أن ننبه إلى أمر مهم وهو أن الدنيا مزرعة الآخرة والعمل فيها، والثواب في الآخرة على قدر العمل الصالح، وتعمير الكون بنواميس الله في الخلق من العمل الصالح والعبادة، فالزراعة والصناعة والتجارة والتشييد والبناء وتعمير الكون من العمل الصالح. (انظر كتابنا التعمير فريضة إسلامية).

الموقف الثالث:

قال الإمام علي: القلوب أوعية فخيرها أوعاها للعلم، الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمجُ رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة، العمل حاكم والمال محكوم عليه، وصنعة المال تزول بزواله، ومحبة العمل دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد مماته، مات خُزَّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودةة وأمثالهم في القلوب موجودة. (حلية الأولياء 75/1. صفة الصفوة 329/1).

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

هذه الوصية البليغة قد اشتملت على دُرر المواعظ وغُرر الحِكَم. انتهى..

وأفضل ما في الوصية بيان حال الرعاع أتباع كل ناعق، الجهلاء الذين يميلون مع كل إشاعة ودعاية إعلامية كاذبة، إنهم يمشون أمامنا كل يوم ولم نجد من يشخصهم مثل هذا التشخيص البلغ.

إن منهم أساتذة في الجامعة، وكتبة في الصحف، ومذيعين في الإعلام، ومربين في التربية والتعليم ومع ذلك فهم يميلون مع كل إشاعة وكل مصلحة دنيوية وكل ترقية في الوظيفة يقفزون من كل قطار محترق إلى كل جديد ومفيد لهم في الحياة الدنيا، إنهم رغم شهاداتهم الورقية جهلاء.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٧٢ – الجمعة ٢٥ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٩ رمضان ١٤٣٩هـ