لقد رجحت كفة إيمان أبي بكر وهمته العالية كفة جميع الصحابة، فكان الرجل القوي في موقف رأي الجميع أن السياسة أفضل من القوة تجلى هذا الموقف التالي:

الموقف:

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلاّ الله عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله. قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقًا كان يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو إلاّ أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. [البخاري ومسلم].

العبر:

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، [ج 9. ص: 34]:

إن الصلاة حق النفس وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه) وقد اقتنع عمر رضي الله عنه بهذا الفهم وعرف أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وهذا مثل من الأمثلة الدالة على علو كعب الصديق رضي الله عنه في العلم وأنه كان أفقه الصحابة وأعلمهم بالإسلام. انتهى..

وترتب على هذا الفهم والهمة العالية للصديق إنقاذ الإسلام من التدمير وإنقاذ الأمة من الوهن والتفكك والضعف أمام المرتدين.

وقد حارب المسلمون المرتدين حول المدينة المنورة، وفي اليمامة، وفي منطقة مكة المكرمة، وفي الطائف، وفي عمان، وفي مهرة، وفي اليمن وغيرها..

ومن نتائج حروب الردة:

كان من نتائج هذه الحروب المتواصلة أن قامت للإسلام دولة عظيمة في جزيرة العرب خضعت لها القبائل العربية إما طوعًا أو كرًها، ولو لم يقم أبو بكر بما قام به من قتال المرتدين والمتمردين لم تقم للإسلام دولة، ولرجعت القبائل العربية إلى سابق عهدها الجاهلي في الحروب والتطاحن فيما بينهم، كما ورد في [المرجع السابق، ص: 122].

ولو لم يجاهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم لإقامة دولة الإسلام لأصبح المسلمون يعبدون الله في خاصة أنفسهم ولا شأن لهم بسياسة الأمة، ولأصبح الإسلام المطبق في الأرض ناقصًا لفقد أصل من أصوله وهو إقامة حكم الله تعالى في الأرض. [المرجع السابق].

وللأسف توجد في العصر الحالي دعوات لهدم ما بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد من أجله الصحابة الكرام، هذه الدعوات تقول دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله؛ والعجيب أن النصارى أصبحوا يتدخلون في السياسة وتتزعمهم الكنيسة ويطالبون المسلمين بعدم التدخل في السياسة وأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، هذه دعوة لتفريغ الإسلام من قوته الدافعة وحبسه في الزوايا والخلوات وإحلالهم محل النصارى في الأديرة والصوامع، وانطلاق الآخرين وخروجهم من الأديرة والصوامع إلى سدة الحكم والتحكم في القرارات السياسية ووضع الدساتير العَلمانية للدول الإسلامية.

أبو بكر قرر بما فعله في حروب الردة أن الإسلام دين ودولة، ودولة الإسلام لا هي دولة كهنوتية دينية ثيوقراطية ولا هي دولة عَلمانية [بفتح العين] بل هي دولة مدنية، المسلمون فيها أعلم بشؤون دنياهم والاجتهاد البشري العصري واجب في الآيات القرآنية ظنية الدلالة وهي السواد الأعظم من الآيات القرآنية مع الالتزام بالآيات قطعية الدلالة في العبادات والمعاملات والمواريث وهي قليلة العدد في القرآن الكريم.

يقول الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

من هنا نعلم أن الذي صمم عليه أبو بكر ووافقه عليه الصحابة بعد أن أقنعهم بفهمه وفقهه وعلمه وهمته العالية هو الأمر المستقيم الذي لا بد منه ليتم تطبيق الإسلام كاملاً كما جاء من عند الله تعالى وكان ما أقدم عليه الصديق من ذلك أمرًا عظيمًا لا يقدم عليه إلا عظماء الرجال الذين بلغ عندهم الإيمان بالله واليقين بنصره لأوليائه ودينه حدًّا يفوق كل التصور والتقديرات التي تعرض للإنسان فتزعزع إيمانه ويقينه.

ولقد وصفت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما هذا الموقف العظيم بقولها: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حُشّ في ليلة مطيرة بأرض مشبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلاّ طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها، ثم ذكرت عمر فقالت من رأي عمر علم أنه خُلق غني للإسلام كان والله أحوزيًا نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها. [البداية والنهاية: 6/309].

ومع هذه القوة العظيمة التي أبداها أبو بكر رضي الله عنه في حرب المرتدين وإقامة الدولة الإسلامية فإنه لم يقبل الخلافة إلاّ مكرها خوفًا من انفلات الأمور وحدوث الفتن تحت إلحاح الصحابة.

ولقد جاء في بعض الروايات أن أبا بكر قال لعمر ابسط يدك نبايع لك فقال عمر: أنت أقوى مني، قال: إن قوتي لك مع فضلك. وهذا تواضع عظيم من أبي بكر رضي الله عنه، فلقد أبانت الأيام بعد ذلك أنه كان أقوى الصحابة في مواجهة الفتنة الكبرى وإن كانت قوة عمر رضي الله عنه قد برزت في كثير من المواقف وساندت قوة أبي بكر رضي الله عنهما.

وما إن خضعت جزيرة العرب بحروب الردة لدولة الإسلام وجه الصديق الصحابة للجهاد في سبيل الله تعالى من أجل نشر الدعوة الإسلامية وإزالة الدول التي كانت تحكم بالجاهلية وتحول دون الشعوب وتفهّم دعوة الإسلام.

ولقد أنجز المسلمون في أقل من عام ونصف في خلافة الصدّيق ما تعجز عنه الأمم في أعوام كثيرة، وذلك بفضل الله تعالى وقيادة أبي بكر الحازمة الحكيمة وقيادة النبلاء في كل من العراق والشام. [انظر التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، المرجع السابق، ص: 125].

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٦٥ – الجمعة ١٨ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٢ رمضان ١٤٣٩هـ