أولا: سعيد بحفيدتي:
مساكين أبنائي لازموني وأنا مشغول للدرجة القصوى في مرحلة الدكتوراه العملية التي كنت أقضي معظم الوقت في تجاربها، ثم جاءت مرحلة إعداد مناهج العلوم في إدارة المناهج بالبحرين، ومرحلة إعداد الحلقات للإذاعة، ومرحلة الكتابة في التراث العلمي الإسلامي، انشغلت عن الجلوس معهم كثيرا، ولكن من فضل الله علي أن معظم هذه الأعمال كانت تتم داخل البيت، فلم أتركهم منفردين في البيت، أتابعهم أثناء العمل في التأليف والكتابة والإعداد لتدريب المعلمين وتأليف المذكرات الإثرائية لهم.

الآن خفت أعبائي الوظيفية، وأذهب إلى مدرسة حفيدتي لإحضارها بعد انتهاء الدوام، كانت فرصة غالية أن أناقشها وأستمع منها وأسمعها وأمازحها وأعتني بها، أشعر بسعادة غامرة وأنا انتظرها في مدخل المدرسة وأرى التلميذات وأراقبهن بهدوء وروية وأتدخل لأوجههن إلى المفروض، أسوق السيارة ومعي حفيدتي بحذر شديد، ألزم مسارا واحدا لا أحاول الحيود عنه، أشعر بسعادة غامرة عندما أتأكّد أنها وصلت إلى البيت لا أتحرك بالسيارة إلا إذا أخبرتني من النافذة بأنها وصلت، تناديني «جدو» وأنا أقول لها شكرا، ضبطت منبه التليفون على الساعة الثانية عشرة ظهرا يدق، أكون قد صليت الظهر وارتديت ملابسي وتوجهت إلى السيارة، عندما تغيب عن المدرسة لمرضها أو للعطلة أشعر أن اليوم طويل جدا ممل على غير عادتي، عندما يدق جرس منبه التليفون أشعر أن قلبي يدق بالحنان، إذا تأخرت عن الخروج من المدرسة دقائق أحس أنها سنوات، نظرت بالأمس إلى حفيدي الصغير وهي تحمله وقالت: مسكين يا آدم فهمت ماذا تقصد، تقصد أنه لن يتمتع بصحبتي كما تفعل هي، أفصحت عن ذلك، حمدت الله أنها سعيدة بصحبتي كما أنا سعيد بصحبتها والحمد لله رب العالمين.

ثانيا: سعيد بإتقان عمله:
إتقان العمل صفة المؤمنين، بها عرفوا، وعليها يؤجرون، ولذلك قيل قيمة المرء بما يحسن، أي يتقن، والله يحب المتقنين لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) (صحيح الجامع الصغير).
والعمل يشمل أعمال العبادات وأعمال المعاملات وأعمال المهن والصناعات، وإتقان العمل: هو إحكامه وإجادته على الوجه الأفضل، وقد ذكر أن صانعا عمل عملا، ولم يقتنع بأنه تام الإتقان، وسلمه لصاحبه الذي لم ير فيه شيئا معيبا، غير أن الصانع لم ينم ليلته كراهة أن يظهر من عمله شيئا غير متقن، فشرع في عمل بديل له حتى أتقن ما تعطيه الصنعة ثم ذهب به إلى صاحبه فأخذ الأول وأعطاه الثاني فشكره فقال الصانع: لم أعمل ذلك لأجلك بل قضاء لحق الصنعة كراهة أن يظهر من عملي عمل غير متقن، فمتى قصر الصانع في العمل فقد كفر ما علمه الله (وأعطاه) وربما سلب الإتقان.
وما نحن فيه من مهانة واستهانة ناتج عن الإهمال في العمل، ومن الإهمال في العمل وضع الشخص غير المناسب في العمل بالواسطة والرشوة والمحسوبية فجاءت أعمالنا سيئة للغاية فسلب الله منا الرزق الحلال، والعمل المتقن وجعلنا عالة على الكفار في المأكل والمشرب والملبس والمركب والأثاث والبناء والزراعة والصناعة والتجارة خلافا للهدي النبوي، فالمؤمن سعيد في عمله (فإن الله قد كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليُحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) أخرجه مسلم.
وطلب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الغلام أن يتقن طريقة أكله فقال له صلى الله عليه وسلم: (قل بسم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك) أخرجه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن) صحيح الجامع الصغير، وإحسان العمل هو العدل والإخلاص فيه والعاقل من يتحرى الصدق في عمله ويقبل على عمله وطلب مرضاة ربه بقدر طاقته ويؤدي الأمانة بقدر جهده وبذلك يرضي ربه (ماذا يحب الله وماذا يبغض، عدنان الطرشة، مكتبة العبيكان، المملكة العربية السعودية).

ثالثا: سعيد ببناتي:
تربى العربي على حب الأبناء الذكور مع النظرة المتدنية للبنات، عجبت من صديقي الذي قال لي أنا كنت سأموت كمدا إن لم أرزق بابني الذكر، الكثير أنجب عشرات البنات لا حبا فيهن ولكن انتظارا للذكر، إنها الجاهلية بعينها وصدقت المرأة العربية التي قالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
تالله ما ذاك بأيدينا
إنما نأخذ ما يعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
تنبت ما قد زرعوه فينا
الحقيقة أنني سعيد جدا والحمد لله ببنتيَّ سعادتي بابنيَّ وأكثر لأن البنت عطوفة حانية أشعر بحنانها وعطفها علي وأشعر أنهما حجابا لي من النار يوم القيامة كما أنبأنا رسول الله صلى على الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك أنني أفرق بينهما وبين ولديَّ اللذين يعطفان علي كعطف البنات علي، أنا والحمد لله سعيد ببناتي سعادتي بالذكور، إنها نعمة الله عليّ في هذه الحياة، إنهم كالماء والهواء لا تستغني عنهم، أدعو الله أن يبارك فيهم وأن يجعلهم من الصالحين الذين يدعون لي بعد انتقالي إلى الحياة الباقية التي ينقطع عملي فيها إلا من دعائهم والعلم النافع الذي بذلت فيه جهدي في الحياة الدنيا.
الجاهلية هي التي زرعت فينا حب الذكور والسعادة بهم، والإسلام زرع فينا حب الجميع والعدل بينهم والمساواة حتى في القبلات والله تعالى يقول: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء (11).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٩٥١ – الجمعة ٣ يونيو ٢٠١٦ م، الموافق ٢٧ شعبان ١٤٣٧ هـ