أولا: سعيد بمكتبتي
الكتب زينة المكان وعنوان على عقول أصحابها وعلومهم وثقافاتهم، وهي من أهم مصادر المعرفة التي عرفتها البشرية وعنوان الحضارة الإسلامية أغرقها التتار الهمج عند سقوط بغداد، وحرقها الصليبيون الجاهلون في إسبانيا، وحارب انتشارها الجهال من قيادات الشعوب يعدّونها خطرا عليهم ووسيلة أيقاظ الشعوب ونهضتها؛ لذلك يصادرونها ويحرقونها ويعتقلون من يؤلفها أو توجد بحوزته أو في بيته أثناء القبض عليه؛ ليحذروا الناس من اقتنائها وتداولها ويخوفونهم من شرائها.

شاء الله أن تكون لي مكتبة متميزة بدأت في تجميعها من أول عام ذهبت فيه إلى القاهرة في الصف الثالث الثانوي (1964م). كانت شغلي الشاغل عند تنقلي من سكن لآخر، كانت متعددة الموضوعات من العلوم الكونية والتاريخ والأدب والدين، بدأ الجانب الديني ينمو أيام الصحوة الإسلامية، وعندما عملت معيدا في كلية التربية جامعة عين شمس تعرفت عمي إبراهيم الذي يجلد الكتب في مكتبة الكلية، بدأت أجلد الكتب بغلاف سميك، وجعلت لكل صنف من الكتب لونا خاصا بكتبه من البني إلى الأحمر والأسود والأزرق، تضخمت المكتبة وملأت البيت وزحفت على المطبخ والبلكونة، ألمُّ هذه المكتبة ملمة بددتها عاودت بناءها من جديد، كانت تستحوذ على معظم دخلي، عندما أعرت إلى البحرين أخذت كتب الأحياء والزراعة والتربية معي، كانت الكتب أعجوبة لمن يراها في البيت، أنقذتني من الجدال مع أنصاف المتعلمين وحسمت الخلاف مع الجاهلين، نمت المكتبة بسرعة كبيرة لوجود المجال المتسع في معرض الكتاب الدولي في البحرين وتوفر الميزانية للشراء، أردت العودة القسرية إلى مصر، تفرقت معظم الكتب، ولكن الله قيد لي الشيخ أحمد جمعة الغريب التاجر المشهور في البحرين الذي أنقذ معظم المكتبة واحتفظ بها لي عنده، ولم أغادر البحرين، وبدأت في تنمية المكتبة من جديد كنت أخاف على تبديدها، لها غرفة خاصة ومتميزة في بيتنا الجديد بمنطقة قلالي، يساورني القلق من تبديدها وتفرقها؛ لأنّ الناس لم يعودوا يقدرون الكتاب ويعدونه مزاحما لهم في المكان، ولا فائدة فيه، الناس يهتمون بالجدران والأثاث والثريات والتحف، وغاب الكتاب تماما من بيوتهم وتخلصوا من الكتب التي كانت عندهم، وفعلوا فعل التتار في أنفسهم بأنفس ما عندهم، ووزارة الثقافة تهتم بالمباني الأثرية وتعيد ترميمها ولا تعير اهتماما بمكتبات الرواد والمثقفين، الناس الآن لا تشتري الكتب الثقافية والعلمية وتركز على كتب الطبخ، والبرمجة العصبية والتداوي بالأعشاب، وكتب السحر والأدعية والأذكار، وحل التليفون محل الكتاب.

إنني سعيد بمكتبتي أقرأ فيها، وأؤلف الكتب منها، لا أحب استعارة أو إعارة الكتاب، الكتاب كالعصفور إن خرج من قفصه لا يعود إليه بسهولة، الإعارة تبدد المجلدات في الموضوع الواحد وتفقدها قيمتها، الحل في رأيي الآن أن تؤلف الكتب من هذه المكتبة فيتم توزيعها في العديد من البلدان والأماكن مما يحفظ بعض النسخ منها استعدادا لبعثها من جديد عندما تعود أمتنا إلى دعائم مجدها التليد ويعود للكتب والمكتبات مكانتها لذلك أنا سعيد بمكتبتي وما ألفت منها من كتب فالكتاب ثروة لا تقدر بمال، وتأمينها تأمين للإنسان، وهي أهم من السجاجيد والثريات والتحف التي نهتم بها ونهمل الكتاب وهي مؤشر على قوة الأمة أو ضعفها.

ثانيا: سعيدة بالشحم والعظم!
كلما مررت بسوق اللحم ووجدت كميات الشحم والعظم الملقاة في صناديق القمامة تذكرت تلك المرأة الحكيمة معاذة العنبرية، وهي تتلذذ بالانتفاع بشحم الذبيحة وكل شيء فيه،ا فلقد أهدى إليها ابن عم لها أضحية فرآها رجل كئيبة حزينة مفكرة مطرقة، فقال لها: ما لك يا معاذة، قالت: أنا امرأة أرملة وليس لي قيم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئا لا منفعة فيه، ولكن المرء يعجز لا محالة، ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر إلى تضييع الكثير، قالت معاذة: أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل منه الخطاف ويسمر في جذع من جذوع السقف فيعلق عليه الزبل والكيران وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير (القطط) وبنات وردان (الصراصير) والحيات وغير ذلك.

وأما المصران فإنه لأوتار المندفة وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة، وأما قحف الرأس واللحيان (عظم الفك) وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإيدام والعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها فلم يرَ الناس وقودا قط أصفى ولا أحسن لهبا منه، وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر لقلة ما يخالطها من الدخان.

وأما الإهاب (الجلد) فالجلد نفسه جراب وللصوف وجوه لا تعد، وأما الفرث والبعر فحطب إذا جف». ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها، وإن لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كيه في قلبي وقذى في عيني وهما لا يزال يعاودني.

قال الراوي: فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم قالت: أجل ذكرت أن عندي قدورا شامية مجددا، وقد زعموا أنه ليس أدبع ولا أزبد في قوتها من التلطيخ بالدم الدسم الحار، وقد استرحت الآن اذ وقع كل شيء موقعه».

قال الراوي: ثم لقيتها بعد ستة أشهر فقلت لها: كيف كان قديد (اللحم المجدد) ذلك، قالت: «بأبي أنت لم يجئ وقت القديد بعد، لنا في الشحم والإليه والجنوب والعظم المعرق وفي غير ذلك معاش، ولكل شيء إبان، انتهى».
وهكذا سعدت معاذة بهذه الشاة الوحيدة، وسبقت بها علماء التدوير للمخلفات الحيوانية والانتفاع بكل شيء فيها. فهل من متعلم يتعلم هذا النهج القويم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٨٨٨ – الجمعة ١ أبريل ٢٠١٦ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخرة ١٤٣٧ هـ