أولا: أهداف السعادة:
لكل نشاط يقوم به الكائن الحي النباتي والحيواني والإنساني أهداف، وعلى الإنسان العاقل العلمي أن يحدد أهداف نشاطه بدقة

ويعمل على تحقيقها بعلمية وإخلاص فتغمره السعادة عند تحقيقها، فعندما خرج أصحاب الكهف من المدينة هروبا بدينهم تحققت أهدافهم (ربُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذا شَطَطًا) الكهف (14)، وعند إرسالهم لإحضار الطعام قالوا لرسولهم: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أو يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إذا أَبَدًا) الكهف (20)، فالعودة للشرك هي الخسران المبين، وعندما بعثهم الله سبحانه وتعالى تحققت باقي أهدافهم (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا) الكهف (21)، فقد نجّى الله سبحانه وتعالى هؤلاء بدينهم، وعلم الناس أن وعد الله حق وأن وقت الحساب آت لا ريب فيه، وأن نهاية الظالمين قريبة، وحسابهم آت لا شك في ذلك، وسعد أصحاب الكهف عند علمهم هلاك الملك الطاغية وأعوانه، وإيمان أهل المدينة بالواحد الأحد، وسعد القوم بالعثور عليهم بعد طول غياب وتناقل الأساطير حول مصيرهم، وعندما يقرأ البعض قصتهم ينشغلون بأشياء لا تمت للأهداف من كل ما حدث معهم ولهم، فانشغلوا بعددهم وإيمان كلبهم، والواجب علينا تدبر قصتهم والبعد عن المشتتات والفرعيات والإسرائيليات التي أحاطت بهم عندهم وعدم ضرب المثل بهم للمتخلفين منا ومن فات زمانهم فالله سبحانه وتعالى قال عنهم: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) الكهف (13) فهم أنموذج للإيمان والثبات على الحق والسعادة في الدنيا والآخرة.

ثانيا: سعداء في كتاب الله:
كتاب الله هو الوثيقة الإلهية والمعجزة الربانية الباقية من معجزات الأنبياء ورسل رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تعاهد الله سبحانه وتعالى بحفظه وتولى سبحانه جمعه وقرآنه وبيانه، فيه ذكر السعداء والأشقياء في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى عن السعداء فيه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) البقرة (2)، أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من المعاصي ويرجون رحمته في التصديق بما جاء فيه، ثم بين الله تعالى أعمالهم النابعة من قولهم: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة (3و4)، فكانت نتيجة أعمالهم المخلصة لله والصادقة والصواب على منهاج علمي سليم (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة (5) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويعمرون كون الله بنواميس الله في الخلق، ويجاهدون في سبيل الله، وتكون زراعتهم وصناعتهم وتجارتهم وتربيتهم وتعليمهم عبادة لله تعالى، هؤلاء هم السعداء في الدنيا والسعداء في الآخرة وخيرة خلق الله.

ثالثا: سعداء بفلاحهم:
الفلاح: هو الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وفلاح أخروي وذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل ولذلك قيل: (لا عيش إلا عيش الآخرة) رواه مسلم، وقال تعال: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) العنكبوت (64) (مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني).
فالسعيد من ظفر بالفلاح في الدنيا والآخرة وقد بين الله تعالى لنا الفالحين فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) المؤمنون (1)، أي فاز المؤمنون وظفروا بالسعادة، وهذا الفلاح جاء نتيجة إيمانهم وأعمالهم (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، ومن أعمالهم: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) المؤمنون (2-9) والجائزة الكبرى التي نالوها بإيمانهم وأعمالهم الصالحة: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) المؤمنون (10-11). والفردوس هو وسط الجنة وهم فيها خالدون: أي: لا يخرجون منها ولا يموتون فيها فهي سعادة أبدية.

رابعا: سعداء بعبوديتهم:
عندما سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر قائلا: ما جاء بكم؟!! قال ربعي: (الله جاء بنا، والله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
والعبادة لله سبحانه وتعالى تحرر الإنسان من العبودية العقائدية والفكرية والبدنية والنفسية والاقتصادية والتربوية والسياسية التي يمارسها الإنسان الطاغي على أخيه الإنسان المستعبد. قال الله تعالى في حق عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا* وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) الفرقان (63-68)، فكان جزاؤهم (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) الفرقان (75).
إنها عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر الإلهية، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته، ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه (أي عباد الرحمن) مطلقا إلا لهؤلاء، (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية رحمه الله). فعباد الرحمن سعداء لعبوديتهم لله سبحانه وتعالى لذلك أتم الله عليهم نعمته (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) الفرقان (75) وهذه سعادة ما بعدها سعادة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٨٢٥ – الجمعة ٢٩ يناير ٢٠١٦ م، الموافق ١٩ ربيع الثاني ١٤٣٧ هـ