أولا: الساعي إلى السعادة:
للنصر في الحياة وجوه عدة لا يعرفها الماديون الدارونيون العلمانيون (بفتح العين)، الذين حصروا النصر في القضاء على الأعداء وتدميرهم وقتلهم وتحريقهم كما فعل أصحاب الأخدود بحرقهم للمؤمنين.

فالقتل في سبيل الله، والدفاع عن الحق، والوقوف ضد الفساد من أعلى معاني النصر، فسيد الشهداء حمزة ورجل وقف أمام سلطان جائر وقال كلمة الحق فقتله الطاغية فانتصر القائل وهلك الطاغية، وفي سورة يس ضرب الله المثل بأصحاب القرية (إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ) يدعونهم إلى التوحيد والعمل الصالح (فَكَذَّبُوهُمَا) قال المرسلون (رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم (لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) (وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: شديد: فظيع، وفي هذه الحالة من التكذيب والتهديد والوعيد والخوف الشديد من البطش الجماعي من قبل أصحاب القرية لمن يؤيد المرسلين (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) فقال: (وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ) (إِنِّي إذا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسمعُونِ)، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطئوه بأرجلهم، وقيل حرقوه، وقيل نشروه بالمنشار (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) يس (26-27)، هنا فاز هذا المؤمن الصادع بالحق وسعد بنعم الله وجاء الهلاك لأهل القرية (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)، وسعد الداعي إلى الحق والسعادة والحمد لله رب العالمين.
ثانيا: سعد بإضحاكهم!!
العجب كل العجب أن ينام المسؤول وحوله الجياع يبكون، والأعجب أن يسرق أموالهم وحقوقهم ويعطيها للأغنياء يتمتعون بها، ويبذّرونها وهو يعلم أنه مسؤول أمام الله عن ذلك ولا يهتم ولا يتقطع قلبه، بل أحيانا يقذفهم بالصواريخ. فعندما طاف المسؤول الخائف من الله ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دارها وحولها صبيان يبكون، وإذا قِدر على النار قد ملأتها ماء يغلي فقال لها: يا أمة الله لم بكاء هؤلاء الصبيان؟ فقالت بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذه القِدر على النار؟ فقالت: قد جعلت فيها ماء هو ذا وأعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيه شيئا، فجلس المسؤول يبكي، ثم جاء إلى دار الصدقة وأخذ غرارة (جوال) وجعل فيه شيئا من سمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال لصاحبه: احمل عليّ، قال: أنا أحمله، قال: لا أم لك، بل أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الدنيا والآخرة، فحمله المسؤول على عنقه حتى أتى منزل المرأة، فأخذ القِدر فجعل فيها دقيقا وشحما وتمرا، وجعل يحركه بيديه، وينفخ تحت القدر والدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا ثم خرج وربض بجوارهم كأنه سبع، فلم يزل كذلك حتى لعبوا وضحك الصبيان ثم قال لصاحبه: أتدري لم ربضت بجوارهم؟ قال الصاحب لا يا أمير المؤمنين، قال رأيتهم يبكون فكرهت أن أذهب عنهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي (أي نفس الفاروق رضي الله عنه)، وهكذا لا تطيب نفس المسؤول المسلم وتحت إمرته من يتألم، وتطيب نفسه عندما يرفق بهم ويدخل السعادة والسرور على قلوبهم ونفوسهم فماذا يقول المسؤول والفقر يقتل شعبه ويساعد الأغنياء على نهب أموالهم؟
ثالثا: أسعد الكائنات!!
عندما يقوم الإنسان بواجبه تجاه من يرعاه ويواليه ويؤمّن حياته ثم يأتيه مكتوب شكر من رب نعمته يؤكد له فيه أنه ممتن لقيامه بواجباته ورد جميله وشكر نعمته تغمر هذا الإنسان السعادة وترتفع همته وتتحسن حالته العامة قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) الحج (18).
وقال تعالى: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) النحل (49).
هذه الكائنات امتثلت أمر خالقها وسجدت له سجود الطاعة والحب والعرفان فشكرها الله سبحانه وسجل شكرها في كتابه الكريم وأمر الخلق أن ينظروا ويروا هذا الطاعة التامة والسجود العظيم والتواضع لله رب العالمين والوفاء بوعدها قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت(11) وقال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) الأحزاب(72)، فهذه الكائنات سعيدة بطاعة الله، والسجود إليه وهذا ما يغيب عن كثير من الناس ولا يعلمون أنها كائنات طائعة عابدة لله عن حب ووعي.
رابعا: السعيد بنفاد كل ماله!!!
عندما أذن مؤذن الجهاد داعيا المسلمين للخروج في سبيل الله في إقليم خراسان خرج فروخ مع المجاهدين وترك لزوجته ثلاثين ألف دينار وجنينا في بطنها، وطالت غيبة فروخ وانقطعت أخباره وزوجته في حيرة كبيرة، وضعت الزوجة ولدا سمته ربيعة، وعكفت هذه الزوجة الصالحة على رعاية ابنها وتربيته وتعليمه، ودفعت ابنها ليسير في طريق العلم طالبا وكانت تقول له: (يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله سبحانه وتعالى يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء، استجاب ربيعة لرغبة أمه وأطاعها في طلب العلم وأمه ترعاه وتحنو عليه وتسانده، وعاش ربيعة حياته للعلم النافع، وبعد سبع وعشرين سنة عاد الوالد فروخ وأعطى زوجته أربعة آلاف دينار وقال: ضعيها مع المال الذي عندك وجلس يستريح، وخرج ربيعة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس في حلقته يعلم الناس العلم النافع، وخرج فروخ إلى الصلاة فوجد الناس قد اجتمعوا في حلقة علم عظيمة حول رجل، فقال فروخ: من هذا الرجل؟ قالوا ألا تعرفه؟! إنه ربيعة بن فروخ عالم المدينة، فرح فروخ فرحا شديدا وعاد إلى بيته وقال لزوجه: لقد رأيت ابني في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم عليها قط، فقالت زوجه: أيهما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو مكانة ابنك بين العلماء؟ قال فروخ بل ما هو فيه من العلم، قالت: فإني أنفقت المال كله في تعليمه وتربيته، فقال فروخ: بارك الله فيك والله ما ضيعته (علو الهمة لنساء الأمة محمود بن محمد حبابة)، وهكذا سعد الزوج بإنفاق كل ماله وحمد الله على حسن تدبير الزوجة وقرت عينه بعالم من علماء الطبقة الرابعة من علماء المدينة المنورة، نفد المال وبقي العلم والثواب والشرف لفروخ وزوجه وولده رحمهم الله جميعا.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٨٥٣ – الجمعة ٢٦ فبراير ٢٠١٦ م، الموافق ١٧ جمادى الأولى ١٤٣٧ هـ