للقوة صور شتى منها: القوة الاقتصادية، والقوة الأمنية، والقوة الاجتماعية، ومنها وحدة الكلمة وتوحيد الموقف بما يغلق الطريق في وجه المرجفين والانتهازيين والانهزاميين والأعداء، وفي الموقف التالي تتجلى وحدة كلمة المسلمين وتوحيد موقفهم أمام المناوئين لدعوة الإسلام وقياداتهم المحرضة والمنظمة لهم.

الموقف:

خرج أبو سفيان ليجد مخرجًا للموقف الصعب الذي عاشت فيه قريش قبل فتح مكة حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان (زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلما هم ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال أبو سفيان: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلاَّ الذَّرّ لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حسنُ بن علي غُلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحمًا وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعنَّ كما جئت خائبًا. فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت (أبو سفيان) إلى فاطمة، فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بُنيَّك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيَّ أن يُجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني، فقال: والله ما أعلم لك شيئًا يغني عنك شيئًا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيًا عني شيئًا؟ قال لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق.

فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله لم يردَّ عليَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب، فوجدته أدنى العدو (أعدى العدو)، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجلُ على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. (سيرة ابن هشام 414-16) نقلا عن التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، مرجع سابق (ص: 169) (ج7).

العبر من هذا الموقف:

يتجلى في هذا الموقف القوة في وحدة كلمة الصحابة رضوان الله عليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضمام النساء إلى الرجال في موقف واحد، وهذا ناتج عن التربية النبوية للصحابة وأهل البيت رضي الله عنهم، تلك التربية الصانعة منهم صفًا واحدًا وبنيانًا واحدًا وجسدًا واحدًا أرهب الأعداء وشتت شملهم، وهذا ما عمل أعداء الإسلام على القضاء عليه بالازدواجية في التربية بين دينية ومدنية بالسياسة الدنلوبية، كما فرق المسلمين إلى مدنيين وعسكريين وليبراليين وإسلاميين وأوجد له أعوانًا بيننا يشقون الصف ويشتتون الكلمة ويفتتون الناس وهذا ما حذرنا الله تعالى منه، فقال تعالى: «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين» (الأنفال: 46).

فاختلاف التضاد والتنازع يؤدي إلى الفشل، والفشل يؤدي إلى ذهاب القوة والمنعة والدولة. لقد جاءنا أعداؤنا بسياسة فرق تسد، ثم فتتوا ديارنا بسايكس – بيكو ثم بالطائفية المتنازعة والمسلحة.

إن توحيد التربية، وتوحيد الأهداف العليا، وتوحيد القيادة أمر مهم لبقاء الأمة وحمايتها من التفتت والانهيار والخروج من التاريخ والحياة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥١٧ – الجمعة ٢٧ مارس ٢٠١٥ م، الموافق ٧ جمادى الآخرة ١٤٣٦ هـ