كلما ذكر تطبيق الشريعة قفزت الحدود إلى بؤرة الشعور، وذلك من التشويه المستمر من أعداء الله تجاه الدين ومن جهل معظم الدعاة الإسلاميين، فعندما يتاح لهم الحديث عن تطبيق الشريعة لا يلتزمون بالهدى النبوي والحكمة الإلهية في التيسير والتدرج في التشريع فينفّرون الناس من الشريعة الإسلامية، ومن العودة لدين الله، وفي الموقف التالي يعلمنا رسولنا الكريم هديه في التدرج في تطبيق الإسلام في حياة الناس.

الموقف:

أخرج الإمام البخاري من حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهم على مخلاف (أي: إقليم) قال: واليمن مخلافان (أي إقليمان) ثم قال: يَسَّرا ولا تُعَسَّرا وبَشَّرا ولا تُنَفَّرا، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله.

في الموقف السابق: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى رضي الله عنهما بالتيسير على الناس ونهاهما عن التعسير عليهم، وأمرهما بالتبشير ونهاهما عن التنفير. وهذا أصل مهم في منهاج الدعوة إلى الله تعالى فإن الناس من طبائعهم أن يعتزوا بعقولهم وإدراكهم، وأن يعتزوا بما ورثوه عن أسلافهم من أديان وعادات وتقاليد فإذا جاءهم من يستخف عقولهم، أو يستفزهم في مقدساتهم التي يؤمنون بها، فإن عنصر الدفاع عن النفس وعن المقدسات والعادات والتقاليد يبرز على الساحة فيغطي على ما أودعه الله تعالى في الإنسان من جوانب الذوق والوجدان والتفكير السليم، ويصبح الشيء الذي يهيمن على الإنسان هو إلى أي مدى سيكون نجاحه في الدفاع عن نفسه وحماية مقدساته وعاداته وتقاليده (كما قال الدكتور: عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر – مرجع سابق – (ج8) (ص: 186)).

وقال: وبهذا يكون هذا الداعية الذي يبدأ بالهجوم واستعمل العنف في دعوته قد وضع بينه وبين المدعوين سدًا منيعًا يحول بينهم وبين التأثر بكلامه وقبول دعوته، وبالتالي يكون قد أساء إلى الدعوة الإسلامية في الموقف الذي كان يظن أنه قد أجاد وأحسن. (المرجع السابق)، وقد يرجع الفشل في أسلوبه ودعوته إلى المدعوين أنفسهم فينفرهم أكثر من قبول الدعوة.

قال الدكتور الحميدي: لهذا كانت هذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذين الداعيتين الكبيرين (بالتيسير والتبشير وعدم التعسير والتنفير).

وأخرج الإمام البخاري أيضًا من حديث أبي معبد مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

في هذا الموقف يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذَا بالتدرج في الدعوة والبدء بالأهم فالمهم، وهذا أيضًا عامل من عوامل نجاح الدعوة، فالدعوة تكون أولاً بترسيخ الإيمان بالله تعالى ورسوله إيمانًا يثبت في القلوب ويهيمن على الأفكار والسلوك، ثم تكون الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق أركان الإسلام العملية التي تُرسِخ هذا الإيمان وتنميه، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، فيتقبل الناس تكاليف الإسلام التي قد تكون مخالفة لهوى النفس والعادات والتقاليد لأن قلوبهم قد عمرت بالإيمان واليقين قبل ذلك (التاريخ الإسلامي مواقف وعبر – المرجع السابق – (ص: 186)).

وفي هذا الموقف درس لمن يطالبون بالبدء بتطبيق الحدود على الفاسدين ومن يظنون أن عدم البدء بها ذنب عظيم، علينا أن نبدأ بحل مشاكل الناس الاجتماعية والاقتصادية والحياتية ومن ثم تعليمهم وتعلمهم محاسن الإسلام وكيف جاء لسعادة الإنسان وتحريره من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن الظلم الواقع على كاهله، ثم نطبق ذلك عمليًا في حياة الناس لتتحول الدعوة من النظريات والمبادئ والمثاليات إلى التطبيق العملي الذي يجد الفقير فيه من يعاونه على طاعة الله تعالى ويجد المريض من يعالجه ويداويه ويصرف له الدواء ويشرف عليه حتى يبرأ من مرضه، ويجد الجاهل من يعمله والجائع من يطعمه، والعاري من يكسوه والمنحرف من يأخذ بيده إلى طريق الاستقامة مع إيجاد البدائل للأنشطة المحرمة لتجار بيع المحرمات، ولأصحاب الحانات المنحرفة وبعدها سنجد الناس يدخلون في دين الله طواعيه وعن قناعة غير قابلة للرَّدة والانتكاسة.

لقد شوه الاستعمار وأعداء الله صورة الإسلام المشرقة بكتاباتهم وأفلامهم ومسلسلاتهم ومسرحياتهم ورواياتهم، وشوهوا صورة المتدين وشيطنوه، كما أساءت السلوكيات المنحرفة للمتاجرين بالتدين ومظاهره الخارجية صورة المسلم الصادق التقي الورع ذي العقيدة الصحيحة والنية السليمة والسلوك القويم، كل هذا وغيره الكثير يحتاج إلى التيسير وعدم التعسير والتدرج وعدم القهر والتعجل، وهذا ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما إلى إقليمي اليمن.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – العدد : ١٣٤٩٦ – الجمعة ٦ مارس ٢٠١٥ م، الموافق ١٥ جمادى الأولى ١٤٣٦ هـ