يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وذلك بأن ننظر فيما قدموه لأمتهم من أعمال مجيدة في مجالات البحث العلمي، والتربية والتعليم، والدعوة والإرشاد، والتعمير والبناء، والجهاد في سبيل الله تعالى، والصحة والاقتصاد وغير ذلك من الأعمال الحيوية، فإن الذي يسهم في بناء الأمة وإسقاط فروض الكفاية عنها، وقضى سنين عمره في خدمة الأمة، يستحق التقدير والاحترام والعفو عنه إن بدرت منه بعض الأخطاء، والموقف التالي يعملنا ذلك.

الموقف:

أخرج الإمام البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس – قال: انطلقوا حتى اتوا روضة خاء فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها، فالتمسنا فلم نر كتابًا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتُخرجنَّ الكتاب أو لنجرِّدنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حُجزتها، وهي متحجزة بكساء – فأخرجته. فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي (لحاطب): ما حَمَلك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلاَّ له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، ولا تقولوا له إلاَّ خيرًا. فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: أليس من أهل بدر؟! فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم – فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. رواه البخاري.

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي، في المرجع السابق (ص: 175)، في هذا الخبر مثل عظيم في التسامح مع أهل الفضل والتقدم في الإسلام، والغض عن سيئاتهم وإن كانت كبيرة.

عندما راجع المصطفى صلى الله عليه وسلم رصيد حاطب بن أبي بلتعة الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى وإعزاز الإسلام فوجد أنه قد شهد بدرًا، ولم يشهد بدرًا إلا مؤمن صادق قوي الإيمان، لأن الإقدام على معركة بدر كان إقدامًا على الموت المرجح، ولا يصل إلى المغامرة بالنفس إلاَّ من ارتفع رصيده الإيماني إلى الحد الذي يجسم أمام ناظريه الهدف الأعلى للمسلم، ألا وهو بلوغ رضوان الله تعالى والجنة وإن كان في ذلك ذهاب النفس والمال.

وفي هذا الموقف التربوي توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة لما قدموه لأمتهم، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطأ محض وزلة قدم فكيف إذا كان ما صدر منهم رأي عملي ناتج عن الاجتهاد وهم أهل لذلك.

إن رصيد حاطب الكبير في الجهاد في سبيل الله كان حائلاً دون إدانته وتوقيع العقوبة عليه، بل كان حاميًا له مما دون ذلك حيث لم يسمع من مسلم كلمة واحدة في نقده والإساءة إليه بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولا تقولوا له إلا خيرًا).

والموقف الجليل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تحول في لحظات من رجل غاضب ينادي بتوقيع العقوبة الكبيرة على حاطب، تحول إلى رجل يبكي من الخشية والتأثر ويقول: الله ورسوله أعلم، ذلك لأن غضبه كان لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلما تبين له أن الذي يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هو غض النظر عن ذلك الخطأ ومعاملة صاحبه بالحسنى تقديرًا لرصيده في الجهاد، استسلم لهذا الأمر وحول غضبه إلى رضا ظهرت آثاره بقطرات من الدمع الغالي الذي يشف عن الرقة والرحمة بالرغم من القوة والصلابة فيمن صدر منه وهذا دليل على الإخلاص لله والتوحيد الخالص والإيمان الراسخ والصواب في السلوك. (انتهى بتصرف قليل).

وفي هذا الموقف درس للأزواج بعد كبرهن ويتناسون العشرة الطيبة والكفاح المشترك والحب ويفارقن نساءهن بالطلاق لمجرد خطأ قليل لا يطعن في دين أو عرض.

والبعض يأخذونها صبية جميلة مليئة بالحيوية ثم يهجرونها بعد الكبر متناسين أن هذه سنة الله في الخلق وأن نسيان الفضل ونكران الجميل عمل لا يحبه الله جل جلاله ولا يحبه رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا درس لأصحاب الأعمال الذين يأخذون العامل شابًا يفني شبابه في خدمتهم وبعد الضعف والكبر لا يجد تقديرا لما قدم.

ويعاقب على أقل خطأ يقع فيه.

إنه درس نبوي في الوفاء وتقدير أصحاب الفضل.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥١٠ – الجمعة ٢٠ مارس ٢٠١٥ م، الموافق ٢٩ جمادى الأولى ١٤٣٦ هـ