في موقعة بدر الكبرى نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه في أرض المعركة وقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد أبدًا. إنها كلمات نبي ملهم يعلم قدر أصحابه وأهميتهم في نشر الإسلام وعبادة التوحيد في الأرض، فهم بذرتها وخميرتها للمستقبل.

وقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما عاهدوا الله عليه وكانوا نعم الأصحاب والأتباع لأعظم نبي أرسل على الأرض، والمواقف التالية من إنفاق الصحابة لأموالهم في سبيل الله تبين مدى دعمهم للدعوة في سبيل الله وإزالة الطواغيت من طريق الدعوة إلى الله، كما أن جهادهم بالنفس معلوم للجميع، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: «الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) (التوبة: 20).

والمواقف التالية تبين جزءًا من إنفاقهم رضي الله عنهم في سبيل الله:

المواقف:

-أخرج الإمام أبو داود من حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال: (سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا). ذكره الواقدي ضمن خبر عن إنفاق الصحابة رضي الله عنهم في تجهيز جيش تبوك (جيش العسرة).

ومما جاء في إنفاق عثمان بن عفان رضي الله عنه على جيش العسرة ما أخرجه الإمام الترمذي من حديث عبد الرحمن بن حباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان. فقال: يا رسول الله عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان يا رسول الله عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل على المنبر وهو يقول: (ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه).

وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد – واللفظ له – والترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما، قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال: فجعل النبي صلى الله على وسلم يقلبها بيده ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارًا).

يقول الدكتور عبد العزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي (مواقف وعبر – مرجع سابق ص: 94)، في هذه الأخبار عبر، منها:

-ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع المسلمين وحثهم على الإنفاق في سبيل الله تعالى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بذلك في حال احتياج المسلمين إما لتجهيز جيش كبير كجيش تبوك، وإماص لجائحة وقعت على بعض المسلمين.

وبهذه الطريقة كان يتم تجهيز الجيوش وتأمين المال اللَّازم لذلك.

لقد كان ذلك يتم بكلمات معدودات يستثير بها النبي صلى الله عليه وسلم المشاعر ويستنهض بها الهمم فتتشوق قلوب المؤمنين إلى بلوغ أعلى الدرجات من الإيمان، وذلك لما ينفقونه من أموالهم قبل دخول المعركة بأنفسهم في سبيل لله تعالى وبهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين أمرين:

-الحصول على المال الذي يتم به تجهيز المجاهدين في سبيل الله تعالى.

-دفع المؤمنين إلى التنافس في أداء العبادة المهمة وهي الإنفاق في سبيل الله جل وعلا عن طواعية ورغبة في رضوان الله سبحانه وتعالى، ولو فرض على جميع المؤمنين مبلغا معينا ولو كان زهيدًا فإنه يحصل الأمر الأول وهو الحصول على المال الكافي، ولكن يتخلف الأمر الثاني وهو أداء العبادة العظيمة.

ولقد رأينا كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغته العالية وحكمته البالغة الفائقة أن يستخرج من الأغنياء والمتوسطين ما يرفع من مستوى الفقراء ويسد خلتهم.

كما نرى موقف الصديق رضي الله عنه حينما جاء بماله كله وأنفقه في سبيل الله تعالى، وهو بهذا يعتبر أعظم المتصدقين، وإن المتأمل ليعجب كيف تصدق بماله كله، ألا يخطر بباله احتياج أهله في غيابه؟ ثم ألا يخطر بباله احتياجه إلى المال في المستقبل؟ بلى سيخطر بباله ذلك فهو بشر كأي بشر، ولكنه وأمثاله من المؤمنين والصديقين يرتبون الأمور بحسب أولوياتها، وقد رأى بثاقب بصره الموجه من إيمانه القوي أن حاجة المسلمين الطارئة أولى من حاجته وحاجة أهله المستقبلية.

إن أبا بكر وهو يحمل ذلك المال الذي لا يملك غيره لينفقه في سبيل الله تعالى كان يحمل همَّ الدولة الإسلامية الفتية التي هددها الروم وعرب الشام.

-إن فهم أبي بكر (وسلوكه) كان عظيما ولا يعتبر متهورا حينما أنفق ماله كله ولا يعتبر بذلك قد ضيع أهله ومن يعولهم، لأن التهور الكبير والضياع الخطير إنما هو بإمساك المال الذي قد يؤدي إلى هلاك الأمة ودمارها على يد الأعداء (المتربصين بها).

-موقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يبلغ نهاية الكمال مثل موقف أبي بكر رضي الله عنه، لكنه حاز درجة عليا من الكمال، حيث أنفق نصف ماله ولو يشعر أن تجهيز الجيش سيحتاج إلى بقية ماله لأتى به.

والموقف الكبير المدهش الذي أثار إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم وسروره البالغ هو ما قدمه ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه من مال كثير جهز به النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة حتى عرف عثمان بمجهز جيش العسرة، ولقد تنوعت نفقته ما بين النقدي وتجهيز للإبل التي تحمل المجاهدين تجهيزا كاملاً (علاوة على رفع همة المسلمين) وفي مثل هذا الموقف يظهر فضل الأغنياء المنفقين، الذين بذلوا جهودا كبيرة في التجارة من أجل كسب المال ليكونوا بأموالهم رصيدا لاحتياج أمتهم، فإذا هُددت دولة الإسلام من الأعداء أو أصيب المسلمون بحوائج كانوا موئل المحتاجين وأمل المتضررين والدرع الواقية للأمة بتجهيز المجاهدين في سبيل الله. انتهى (التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، مرجع سابق).

وهنا يبرز دور الواقفين لأموالهم من أغنياء المسلمين الذين شيدوا الجامعات والمدارس والمصحات والأَسْبلة ووقف الحيوان وتأمين طرق تجارة المسلمين.

قال الدكتور الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر (مرجع سابق):

لقد ذكر العلماء أن العبادات المتعدية التي يتعدى نفعها للمسلمين أفضل من العبادات الخاصة التي يقتصر نفعها على فاعلها وذلك في مجال النوافل.

وإن من أهم العبادات المتعدية الإنفاق في سبيل الله تعالى وما يسبق ذلك من استثمار المال وتنميته من أجل هذا الهدف النبيل (كالوقف للتعليم، والصحة، ومساعدة الفقراء والتنمية البشرية لهم).

ما أحوجنا إلى بيان فضل الصحابة رضوان الله عليهم لأبنائنا ليتربوا على حبهم وتقديرهم والاقتداء بهم.

وما أحوجنا إلى إحياء سنة الوقف التي نسيها المسلمون لسنين طويلة وجاء الاستعمار وأعوانه للقضاء عليها والاستيلاء على أموال الوقف لهدم هذه السنة التي رفعت من شأن الحضارة الإسلامية.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥٤٥ – الجمعة ٢٤ أبريل ٢٠١٥ م، الموافق ٥ رجب ١٤٣٦ هـ