إكرام الكريم وإنزال الناس منازلهم والاستقامة العملية والعلمية على الدين من المبادئ الإسلامية المقررة في السنة النبوية المطهرة، والموقف التالي يؤكد على إكرام الكريم والاستقامة على الدين.

الموقف:

قال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم (الطائي) فكان يقول: فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرأ شريفًا، وكنت نصرانيًا، وكنت أسير في قومي بالمرباع (وهو ربع الغنيمة يأخذه سيد القوم قبل القسمة، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يُصنع لي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته.. ثم لحقت بأهل ديني من النصارى بالشام هروبًا من جيوش المسلمين) وخلفت بنتًا لحاتم (أخته) في الحاضر (أي في مكان قومه)، فلما قدمت بالشام أقمت بها وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم (أي أسرها) فيمن أصابت، فقُدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله هربي إلى الشام، قال: فجُعلَتْ بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يُحبسن فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزْلة (أي عاقلة أصيلة الرأي) فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلك الوالد، وغاب الوافد فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك. قال: ومن وافدك؟ قالت: عديَّ بن حاتم. قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان الغدُ مرَّ بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرَّ بي وقد يئست منه، فأشار إلى رجل من خلفه أن قُومي فكلَّميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك.

فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بليّ أو قُضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت في ظعينة (أي امرأة على ناقتها تصوب «أي تنحدر من أعلى» إلي تؤمُّنا. قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت عليَّ انسحلت أي أخذت تلوم وتشتم، تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقيَّة والدك عورتك، قال: قلت: أي أخيَّة، لا تقولي إلاَّ خيرًا، فوالله مالي من عُذر، لقد صنعت ما ذكرتِ. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة، ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟! قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًّا فللسابق إليه فضله، فإن يكن ملكًا فلن تَذل في عز اليمن، وأنت أنت، قال: قلت: والله إن هذا للرأي.

قال عدي: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تُكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أَدَم (الجلد) محشوة ليفًا، فقذفها إليَّ، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عديُّ بن حاتم، ألم تكن ركوسيا (دين النصارى والصابئين)؟ قال: قلت: بلى. قال: أولم تكن تسيرُ في قومك بالمرباع؟ قال: قلت بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفْتُ أنه نبي مُرْسل يعلم ما يُجهل، ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المالُ أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوَّهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية (أو من الحيرة) على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، قال: فأسلمت.

وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة: والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فُتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، وليُفيضن الله المال حتى لا يوجد من يأخذه. (سيرة ابن هشام) نقلاً عن التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، مرجع سابق.

العبر من الموقف:

قال الدكتور الحميدي (في المرجع السابق): معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريمة لأخت عدي بن حاتم حيث بقيت معززة مكرمة، ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ما تتبلغ به في سفرها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد لها أن ترى حياة المسلمين وتصف لأخيها أخلاقهم ومعاملاتهم، وقد كان لهذه المعاملة الكريمة أثر واضح في قدوم أخيها وإسلامه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص دائمًا على اجتذاب سادة القبائل إلى الإسلام حتى يكسب بذلك أقوامهم.

تخلُّق النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق العالية كان أقوى العوامل التي جذبت عدي بن حاتم إلى الإسلام، فقد رأى في رسول الله صلى الله عليه وسلم مَظهرين من مظاهر التواضع.. أولهما: وقوفه الطويل مع امرأة كبيرة السن تحدثه في حاجتها، وثانيهما: جلوسه على الأرض وتقديمه الوسادة لضيفه ليجلس عليها.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مُعَلَّمًا حينما انتقد عديًّا في مخالفته للدين (النصراني) الذي يعتقده، حيث حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه مالا يعلمه الناس من حوله.

ثم لما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم قد حصل عنده (التعَلُّمْ) واليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، تطرق إلى المعوقات التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق حتى مع معرفتهم أنه حق، ومنها ضعف المسلمين، وعدم اتساع دولتهم وما هم فيه من الفقر.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خبيرًا بالنفوس وأدوائها ودوائها وموطن الضعف فيها، فكان يعامل كل إنسان بما يلائم علمه وفكره وما ينسجم مع مشاعره وأحاسيسه (أ.ه).

وهذا أنموذج يحتذى في الأخلاق الحميدة والتربية الرشيدة والسلوك العظيم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥٢٤ – الجمعة ٣ أبريل ٢٠١٥ م، الموافق ١٤ جمادى الآخرة ١٤٣٦ هـ