من سلوك أهل جهنم: (كلما دخلت أمة لعنت أختها)، ومن سلوك الطغاة الطمع في كل ما ليس من حقهم، ومن سلوك المؤمنين تأدية الأمانات لأهلها وحفظ حقوق العباد وعدم تفضيل الأقارب، كما يفعل المفسدون عندما يولون أبناءهم الوظائف العليا في أماكن نفوذهم فتصبح الوظائف بالوراثة ويحول دون الكفاءات والمساواة وينتشر الفساد. وفي الموقف التالي تأكيد على أهمية إعطاء كل ذي حق حقه.

الموقف:

عن صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعًا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فَفُتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس (أي اجتمعوا له في المسجد).

قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ثم قال: يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..) الآية الحجرات: 13.

ثم قال يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله (أجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء) (إسناده حسن كما أورد ابن حجر في فتح الباري 818.

قال الدكتور عبدالعزيز الحميدي في التاريخ الإسلامي (المرجع السابق، ج: 7، ص: 201).

قال: في هذا الخبر مواقف منها:

رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى بني شيبة، لقد كانت السلطة الكاملة آنذاك بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان باستطاعته أن يمنح بني هاشم شرف حجابة البيت، ولكنه يعلم أن ذلك يتعارض مع خُلق الوفاء والبر، فبنو شيبة لهم حق التوارث في ذلك، فمن البرَّ بهم أن لا ينزعه منهم ومن الوفاء أن يرد المفتاح إليهم، ولذلك قال لعثمان بن طلحة الشيبي: (هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم الوفاء).

وفي هذا الخبر مثل واضح لتمييز النبي صلى الله عليه وسلم بين بر الأقارب وإقرار العدالة في إعطاء الناس حقوقهم.

إن للقرابة حقًا ثابتًا في البر والإحسان ولكن يجب ألاّ يطغى لزوم ذلك على مبدأ إقرار العدالة في الأرض، لأن ذلك من الظلم، وقد يحدث بسبب عدم تطبيق العدالة فساد في الأرض، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي هذا المبدأ في كل توجيهاته وأحكامه.

ما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم من بيان بعض العقائد والأحكام ومخاطبة قريش بالعفو والتسامح، فمن ذلك إلغاء مآثر الجاهلية التي تتنافى مع الإسلام، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قويًّا حازمًا في هذا القرار لأن بعض المآثر يعتز بها (الجاهليون).

ومن ذلك إقرار المساواة بين الناس في الأنساب التي يعتز بها أهل الجاهلية، فالناس جميعهم من آدم عليه السلام، وإنما أحدث الناس التمييز في الأنساب بحسب أهوائهم، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الوحيد الذي يتفاضل فيه الناس، ألا وهو التقوى، حيث تلا قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات: 13.

وقد ختم النبي صلى الله عليه وسلم خطبته بموقفه العظيم في العفو عن قومه والتسامح معهم حيث قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

لقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم إساءة قومه بالإحسان (والعفو)، وعداوتهم بالعطف والرحمة وغض الطرف عن كل ما وصل إليه منهم من أذى وإهانة.

تُرى لو كانوا هم الذين ظفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ماذا كانوا سيفعلون به؟!!، إن كل ما يتصوره البشر من وسائل الإهانة والتعذيب يمكن أن يجعلوها مقدمة لقتله والتخلص منه.

لكنه صلى الله عليه وسلم أطلقهم كاملي الحرية من غير أن يمس كرامتهم ولا أن يجرح مشاعرهم (وللأسف مازال البعض يُعيرهم ويعير أبناءهم بهذا الموقف النبيل ويسبهم بقوله لهم «يا أبناء الطلقاء»).

ولقد كان للسلوك الكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأثر الكبير في هدايتهم، حيث أسلموا جميعًا على فترات (والإسلام يَجُبُّ ما قبله).

وهذا منهاج عالٍ يرسم معالمه النبي صلى الله عليه وسلم في سلوك المسلمين وفي الدعوة إلى الله تعالى ليسير المسلمون على نهجه في التجرد من الجاهلية وحض النفس الخالص إلى ما فيه هداية الناس وإعزاز الإسلام.

(انظر التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، عبدالعزيز الحميدي، مرجع سابق، ج7، ص: 202).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥٣١ – الجمعة ١٠ أبريل ٢٠١٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخرة ١٤٣٦ هـ