الإسلام دعوة إلى التنوير والارتقاء بالإنسان من الجاهليات التي سادت العالم إلى حضارة من لون جديد لم تعهدها البشرية من قبل، وقد يعترض معترض ويقول: إن الإسلام لم يأت فيما يخص الحضارة والتحضر بجديد، فقد سبقته إلى ذلك حضارات عديدة، وان كل حضارة من هذه الحضارات أتت بقيم أخلاقية تضيء جوانب الحياة التي كانت مظلمة.

بداية، نريد أن نفرق بين القيم والمثل التي جاء بها الإسلام وما يماثلها في الحضارات التي سبقت حضارة الإسلام، وأيضاً بين حضارة الإسلام في العصر الحاضر والحضارة المعاصرة له، والتي تشهدها البشرية اليوم.

عند التدقيق في حقيقة هذه القيم سوف نلاحظ أن هناك فرقاً عظيماً، وتمايزاً شديداً بين قيم الإسلام ومثله والقيم والمثل التي نادت بها الحضارات الأخرى وسوف نكتشف عند التدقيق أن القيم والمثل في الإسلام تستمد أصولها من الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وهي قيم ومثل مطلقة لا تفرق في التعامل بين البشر، فالإسلام في الجوانب الإنسانية ينظر بعين المساواة والإنصاف إلى الناس جميعاً في عطاء الربوبية التي لا تفرق بين المؤمن وغير المؤمن، وهذا المبدأ يستمد أصوله من دستور الإسلام الخالد، من القرآن الكريم، يقول تعالى: «وإذ قال إبراهيم رب اجعله بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير» (البقرة -126).

إذاً، فعطاء الربوبية لا يفرق بين مؤمن وكافر، وبما أن الله تعالى بربوبيته قد استدعى الجميع إلى الحياة، فقد ألزم نفسه سبحانه بأن يوفر لهم مقومات الحياة، وأما فيما يخص عطاء الألوهية، فهذا مقصور على المصطفين من الناس ممن آمنوا بالله تعالى وباليوم الآخر ممن ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه: «الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير» (الحج -75)، وقال تعالى: «وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» (البقرة -124).

إذاً، فهناك فرق شاسع بين عطاء الألوهية، وعطاء الربوبية..عطاء الربوبية للمؤمن والكافر على حدٍ سواء، وأما عطاء الألوهية فللمصطفى من المؤمنين، حتى أبناء الأنبياء لم يشملهم هذا العهد، وكما هو معلوم فقد كان منهم من كفر كابن نبي الله نوح (عليه الصلاة والسلام)، وكقابيل ابن آدم الذي قتل أخاه هابيل.

يقول الباحث والأديب العربي اللبناني نصري سلهب: حضارة الإسلام -التي سيطرت على العالم مئات خمساً من السنين- كانت وليدة الإيمان، والإيمان وحده. (قالوا عن الإسلام- د.عمادالدين خليل -329).

إذاً، فالحضارة الإسلامية تتميز عن غيرها من الحضارات بأن أصولها تنتمي إلى عقيدة التوحيد، وهي العقيدة التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، وهذا ما أكده القرآن الكريم في وحيه الخالد، قال تعالى: «وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئُون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون» (التوبة – 30).

وأما الأمة الإسلامية (الموحدة) وحدها، فتقول وتؤمن بقوله تعالى:«قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفواً أحد(4)». (الإخلاص).

إذاً، فالأساس المكين الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، وانطوت على بذور صالحة للإنبات من جديد، هذا الأساس هو: التوحيد، وحين نبحث في الحضارة الإسلامية، وفي تجلياتها عن الوحدة للأمة في أعلى مراتبها نجده في التوحيد، قال سبحانه وتعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» (الأنبياء -92). لذلك نجد أن وحدة الأمة الإسلامية في أعلى تجلياتها تنبع من عقيدة التوحيد، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم يكون هذا الميزان القسط في كل ما نأخذ وندع من أمور ديننا ودنيانا.

ومن تجليات الإسلام الحضارية ما أشار إليه الأستاذ إبراهيم خليل أحمد- الذي كان قسا نصرانيا فأسلم- قال في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن – ص 207): «إن أثر العرب والإسلام في تاريخ العصور الوسطى لا يقف عند حد التغييرات السياسية التي أحدثوها في أوضاع العالم المعروف، بل يبدو هذا الأثر أشد ما يكون وضوحا في الميدان الحضاري». (راجع كتاب «قالوا عن الإسلام» د.عماد الدين خليل – ص 331).

ويؤكد الأستاذ إبراهيم خليل على خلق التسامح في الإسلام: «وهو خلق إيماني قبل أن يكون خلقاً حضارياً، فيقول: إن العرب لم يفرقوا في نشاطهم الحضاري بين المسلمين وغير المسلمين، بل سمحوا للنصارى واليهود بالتتلمذ عليهم، والاستفادة منهم، فأقبل الأوروبيون في الأندلس وصقلية، والآسيويون في الشام وغيرها على دراسة المعارف الإسلامية وترجمتها مما ساعد على نهضة أوروبا في العصور الوسطى». (نفس المصدر السابق- ص 331).

ويؤكد المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار مساهمة المسلمين الفَعَّالة في الحضارة الإنسانية، فيقول: إن الموضوعية التاريخية -بل مجرد العدل- تدفع إلى التذكير بأن الحضارة التي تعهدت الثقافة المتوسطة خلال القرون السبعة التي تتألف منها العصور الوسطى كانت الحضارة الإسلامية، ويعترف معظم المؤلفين اليوم بهذا الواقع. («قالوا عن الإسلام»- د.عمادالدين خليل – ص345).

ومعلوم أن من تجليات الإسلام الحضارية حديثه عن العلاقة الوثيقة بين العلم والدين، يقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة – 14): «إن الإسلام قد اعتبر دائماً أن الدين والعلم توأمان متلازمان، فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وان تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا». (راجع كتاب «قالوا عن الإسلام» – د.عماد الدين خليل – ص 347).

وعن دور الإسلام في عصر التنوير الحقيقي تحدثنا المستشرقة ديبورا بوتر قائلة: «لقد جاء الإسلام بعصر التنوير الحقيقي في المجالات العلمية والثقافية والفنية بصورة لم يسبق لها مثيل في عظمتها إلى يوم الناس هذا». (المصدر السابق – ص346).

ومن تجليات الحضارة الإسلامية فيما يخص خلق التسامح، قال المفكر اللبناني (المسيحي) نصري سلهب: إن الآية التي أستطيع ذكرها هي التي تنبع سماحة إذ تقول: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» (العنكبوت -46).

وقليلاً وربما نادراً ما يأسر المغلوب قلوب غالبيه، وهكذا فعل الإسلام في الحروب الصليبية، يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: لقد أسر الإسلام (المغلوب) في الحروب الصليبية غالبيه، وأدخل فنون الحضارة إلى حياة العالم المسيحي، وكانت حياة (لاتينية) صدئة، وفي بعض حقول النشاط الإنساني، كهندسة البناء مثلاً، تغلغل التأثير الإسلامي في العالم المسيحي كله طيلة قرونه الوسطى، أما في صقلية والأندلس، فقد كان تأثير الدولة العربية الجديدة فيها بالإمبراطورية العربية أوسع شمولاً وأبعد غوراً. (المصدر السابق – ص350).

هذه بعض تجليات الحضارة الإسلامية على ألسنة علماء الغرب ومفكريه من الغرب والشرق نسوقها إلى المثقفين العرب الذين أصابتهم الأنيميا الثقافية (فقر الدم الثقافي)، وهي أنواع كثيرة، وعلاجها في المجال الثقافي عن طريق تناول جرعات من الثقافة الإسلامية الجامعة المانعة، لأن كثيراً من المثقفين العرب مصابون بنقص في تكوينهم الثقافي.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٥٥٢ – الجمعة ٤ اكتوبر ٢٠٢٠ م، الموافق ١٧ صفر ١٤٤١ هـ