بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا

الاتزان في السلوك وسط بين الإفراط والتفريط، وهو يدل على التربية المتزنة والسلوك السوي، ومن يقرأ الآيات القرآنية في سورتي القصص ولقمان يجد التربية للاتزان الجماعي وبناء الشخصية السوية، قال تعالى: «إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ القصص» (76-77).

 

فعندما أفرط قارون في سلوكه الاجتماعي وبغى على قومه وتكبر عليهم بنعم الله عليه وقطع أرحامه قال له قومه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ القصص (77). فرح البطر والغرور وعدم الاتزان في السلوك وسخر نعم الله عليك للنجاة في الدار الباقية في الآخرة حيث النعيم المقيم، ونحن لا نطالبك بعدم الاستمتاع بنعم الله عليك في الدنيا فالاتزان في الفرح مطلوب، والاتزان في التمتع بالمال والجاه مطلوب، وهو سمة من سمات الأسوياء العقلاء الفاهمين الواعين، فإذا كان الله تعالى قد أحسن إليك بالمال فأحسن إلى أرحامك وجيرانك والفقراء والمساكين ولا تغيظ الناس بنعم الله عليك، بل أد حق الله عليك في هذا المال حتى يبارك الله تعالى في مالك، وإذا كان الله تعالى قد أحسن إليك بالجاه والقرب من السلطان وأصحاب النفوذ فأحسن كما أحسن الله عليك بالقرب من أرحامك وجيرانك وأهل بلدك بالشفاعة الحسنة لهم عند المتنفذين وحل مشكلاتهم الإدارية والاجتماعية، وإذا أحسن الله تعالى إليك بالعلم النافع فأحسن كما أحسن الله إليك، وعليك بتعليم الناس العلم الذي أحسن الله عليك به، وأوقف الأوقاف على إنشاء المدارس ومراكز تحفيظ كتاب الله وتفهيمه والإنفاق على المعلمين والمتعلمين والمنشآت والمناهج الحديثة، وعليك بالإصلاح في الأرض وتجنب الفساد الاجتماعي والسلوك غير السوي الموغر للصدور، وابتعد عن الأنشطة المفسدة والملوثة للبيئة والمضرة بالإنسان والحيوان والنبات والمنشآت والناشرة للأمراض لتكون محبوبا من قبل الناس ومن قبل رب العباد، فإن الله لا يحب المفسدين في الأرض بالسلوك الاجتماعي غير السوي، والسلوك المادي المفسد للأرض التي خلقها الله تعالى صالحة لحياة الكائنات الحية الأرضية.

لم يمتثل قارون لكل هذه النصائح المخلصة وتمرد عليهم بعلمه وبجاهه وماله، «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» القصص (78)، «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» القصص (79)، ففتت الضعفاء الجهلاء بهذا السلوك الاجتماعي غير المتزن، «قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» القصص (79)، وهنا جاء دور الأسوياء الفاهمين العالمين لإحداث الاتزان الاجتماعي في نفوس الضعفاء، «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ» القصص (80)، الصابرون على فتنة الطغيان بالمال والجاه والعلم، وجاءت الإجابة الربانية لتعيد الاتزان إلى النفوس، «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ» القصص (81)، فعاد الاتزان إلى نفوس الضعفاء، «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» القصص (82)، فعادت النفوس إلى الفهم السوي والتربية السوية، «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» القصص (83).

إنها التربية العملية لتدعيم النفس السوية وردع طغيان التربية غير السوية.

وفي سورة لقمان يتولى الأب الحكيم الصالح التربية النفسية السوية لابنه، قال: «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» لقمان (13)، بدأ ببناء عقيدة التوحيد لتخلية النفس من عدم الاتزان ثم تحليتها بالإيمان الراعي للمعتقد السوي المؤدي إلى الفهم المتزن السوي والسلوك الاجتماعي السوي.

ثم بدأ في التربية الاجتماعية اللازمة لبناء الشخصية الاجتماعية القوية والسوية فقال لابنه: «يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» لقمان (16)، حتى تتربى في نفسية الابن المراقبة الذاتية لله تعالى علام الغيوب والقادر على كل شيء والعالم بكل شيء في الوجود، «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» الأعراف (54)، وبدأ في التطبيق العملي للسوك العملي في المجتمع، «يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» لقمان (17).

فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المصلين، وإن قابل الناس هذا الأمر والنهي بالسلوك غير السوي عليك يا بني الصبر على ما يصيبك من الجاهلين أصحاب السلوك غير السوي الكارهين للمتطهرين والأسوياء.

«وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» لقمان (18-19).

إنها النفس السوية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، الأنموذج والقدوة للناس في السلوك والاتزان في التصرف والحديث للناس بنفس هادئة مطمئنة وبأصوات غير مزعجة.

هذه هي التربية لبناء الشخصية الإسلامية القوية والسوية في الآيات القرآنية الرافضة للطغيان بالمال والعلم والجاه، المغالية في السلوك، والتربية الأبوية الحكيمة المربية للأبناء على التوحيد والصلاة والسلوك الاجتماعي الإيجابي الباني للأجيال القوية القادرة على نشر الخير وتعمير الكون بنواميس الله في الخلق.

«بناء الشخصية الإسلامية في السيرة النبوية، نظمي خليل أبو العطا موسى، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، (ط1) (2013م)».

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٦٥٢ – الجمعة ٢٩ يناير ٢٠٢١ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٢هـ