في المواقف الصعبة والحاسمة تبرز معادن الرجال ورجاحة عقلهم وحسن تصرفهم وإنقاذ الناس من الوقوع في الفتنة، إنهم رجال يسوقهم الله تعالى لتوحيد الكلمة وإنقاذ الأمة من الوقوع في مهْلكة التنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب الدولة كما قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].

إنهم رجال الدولة، والمواقف التالية تجسد تلك المعاني عمليًا.

الموقف الأول:

لقد أدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة أكمل أداء وبلّغ الرسالة التي حمّله الله جل وعلا أكمل بلاغ فلما دنا أجله خيّره الله تعالى بين البقاء في الدنيا إلى أجل اللحاق بالرفيق الأعلى، فاختار ما عند الله كما جاء في رواية الإمام البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خُيّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخّير وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أَمِنَ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، ولا يبقيَّن في المسجد باب إلاّ سدّ إلاّ باب أبو بكر. [رواه البخاري].

العبرة من الموقف:

قال الدكتور الحميدي في التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، [مرجع سابق، ج: 9. ص: 17]، قال: ففهم أبو بكر رضي الله عنه مُراد النبي صلى الله عليه وسلم لدقة ملاحظته وشده متابعته لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وإشفاقه على أمته من بعده، حيث كان هذا التفكير يشغل باله ففهم التلميح من دون الصحابة رضي الله عنهم، وكان هذا الفهم بداية لموقف كبير منه ثبّت الله به الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد فهمت عائشة رضي الله عنها هذا في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الإمام البخاري من حديثها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشيّ عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فقلت إذا لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى. [رواه البخاري].

الموقف الثاني والمهم:

لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت الناس دهشة عظيمة وبرز المنافقون فكان عمر رضي الله عنه يهدد ويتوعد من يقول إن رسول الله قد مات.. كما أخرج الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلاّ ذلك وليبعثنه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم. [رواه البخاري].

العبر من الموقف:

قال الدكتور الحميدي، [المرجع السابق، ص: 18]: من كلامه في ذلك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يُفني الله المنافقين وكانوا قد أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤوسهم.

وهكذا كان عمر يرى أن بقاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يفني الله تعالى المنافقين، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتبرون المنافقين أكبر أعدائهم وهذا موافق لقول الله تعالى فيهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون: 4].

ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه غائبًا ذلك اليوم، فلما حضر كشف الأمر للمسلمين وأنقذ الله تعالى به الموقف كما أخرج الإمام البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشّى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم انكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كُتبت عليك فقد متها (أراد أبو بكر بهذا الكلام الرد على من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سيحيا فيقطع أيدي رجال.. لأنه لو صح ذلك للزم أن يحيا ثم يموت موتة أخرى) كما قال ابن حجر رحمه الله في [فتح الباري 8/145].

قال الزهري عن عبدالله بن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يكلّم الناس. فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].

وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما اسمع بشرًا من الناس إلاّ يتلوها.

قال عمر: والله ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها فعُقرت حتى ما تقلّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حيث سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. [رواه البخاري].

قال الحافظ ابن حجر: ثم نزل فاستبشر المسلمون وأخذ المنافقين الكآبة، قال ابن عمر: وكأن على وجوهنا أغطية فكُشفت. [فتح الباري].

قال الدكتور الحميدي في المرجع السابق:

وإنما استبشر المسلمون لأن الله تعالى جمع شملهم ووحدّ كلمتهم بأبي بكر رضي الله عنه وزال الخوف بينهم وأصاب المنافقين حسرة وكآبة لما رأوا اجتماع كلمة المسلمين ولما في خطبة أبي بكر من التهديد لهم ولأمثالهم ممن تسوّل له نفسه محاولة إثارة الفتنة وتفريق شمل المسلمين كما جاء في رواية للإمام البيهقي.

خطب أبو بكر ومما قاله: واتقوا الله أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من ينصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء وبه هدى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة وما وضعناها بعد، ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبغين أحد إلاّ على نفسه [دلائل النبوة 7/218].

وبهذه الكلمات المضيئة القوية خمدت رؤوس الفتنة واطمأن المسلمون إلى وجود القيادة القوية الحكيمة التي ستسلك بهم الطريق في أمان بإذن الله. [انظر المرجع السابق، ص: 20]

وهكذا جاء الصديق رضي الله عنه بالصدق والاتباع والفهم الصحيح للدين والقوة الرادعة لأعداء الله، والموحدة لكلمة المسلمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٤٦٦٦ – السبت ١٩ مايو ٢٠١٨ م، الموافق ٠٣ رمضان ١٤٣٩هـ