ين الأستاذ عبدالرحمن حبنكة الميداني رحمه الله في كتابه براهين وأدلة إيمانية أن مذهب الإلحاد يقوم على مزاعم وهمية أولها أن الكشوف العلمية قد استطاعت تفسير الظواهر الكونية بأسباب وقوانين ثابتة. إذن فلا حاجة إلى افتراض رب خالق يصرف أحداث هذا الكون.

وهذا زعم فيه من قصور النظر العقلي ما يشبه قصور عقل من أحس بألم ضرب على رأسه، ثم لما رأى بعد البحث أن عصا تدخل من نافذة فتضرب رأسه ثم تعود، تصور هذا الشخص أنه أدرك سر الأمر كله، وأن السبب كله يقف عند العصا، ولا شيء وراءها فلا حاجة إلى افتراض أن كائنًا حيًا هو الذي يحرك العصا ويضربه على رأسه، فترصد للعصا فكسرها، وظن أن مشكلته مع العصا قد انتهت بكسرها، ويشبه قصور عقل من ظن أن سر تحرك القطار الطويل ينتهي عند الآلة المتحركة التي تجره، فلا حاجة إلى افتراض وجود إنسان صنع هذه الآلة ويحركها ويوجه حركاتها وفق المصالح التي تقتضيها غايات ركاب القطار.

إن اكتشاف حلقة خفية من حلقات نظام الكون لا يقدم تفسيرًا لهذا النظام، ولكن يقدم وصفًا لبعض الجوانب التي كانت خافية منه، وهذا الكشف الجديد هو جزء من النظام، وهو نفسه بحاجة إلى تفسير.

يقول العالم البيولوجي الدكتور سيسيل هامان في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم): لقد كان الناس ينظرون إلى خفايا عمليات الهضم والامتصاص ويستدلون بها على وجود التدبير المقدس، أما في الوقت الحاضر فقد أمكن شرح هذه العمليات، ومعرفة التفاعلات الكيماوية الحيوية التي تنطوي عليها، الإنزيمات التي تقوم بكل تفاعل، ولكن هل يدل ذلك على أنه لم يعد لله مكان في كونه؟!

فمن إذا الذي دبر لهذه التفاعلات أن تسير؟ وأن تسيطر عليها الإنزيمات تلك السيرة الدقيقة المحكمة؟

إن نظرة واحدة إلى إحدى الخرائط التي تبين التفاعلات الدائرية العديدة، وما يدور بين كل منها والآخر من تفاعلات أخرى، كفيلة أن تقنع الإنسان بأن مثل هذه العلاقات لا يمكن أن تتم بمحض المصادفة، ولعل هذا الميدان يهيئ للإنسان من العلم ما لا يهيئه أي ميدان آخر، بأن الله يسير هذا الكون تبعًا لسنن قدرها ودبرها عندما خلق الحياة.

إن الطبيعة لا تفسر شيئًا في الكون، وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير، وكلما وصل الإنسان إلى قانون جديد، فإن هذا القانون ينادي قائلاً: إن الله هو الخالق وليس الإنسان إلا مكتشفًا.

إن من عجيب ما يتعصب له الفكر المادي المعاصر ترجيح التفسيرات المادية لكل ظاهرة من ظواهر الوجود، الوقوف عندها، ولو كانت هذه التفسيرات لا تقدم تعليلاً عقليًا أو واقعيًا صحيحًا للظاهرة. ((براهين وأدلة إيمانية، عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق: سوريا، ط1. ص: 58. 1987م)).

وعندما يتتبع الباحث جزيء الجلوكوز وكيف يتم تحليله في الجسم البشري وإعطاء جزئيات الطاقة (ATP) في دورتي التحلل الجليكولي وكربس وكيف تتم هذه الدورات في إحكام وإيقاع مقدر يدرك أن خلف هذه العمليات موجد عليم مقدر مدبر فلا مجال للعشوائية أو المصادفة، والعجيب أن هذه العمليات تتم بنفس الخطوات في جسم كل إنسان وكذلك في جسم الحيوان فمن خلق هذا وقدر سوى الخالق سبحانه وتعالى.

وكل يوم نكتشف دورات جديدة كانت تتم منذ خلق الإنسان في دقة وتقدير وإحكام معجز.

على الملحدين أن يفكروا بعقولهم ويخرجون من دائرة المصادفة والعشوائية في الخلق حتى يروا بعلمهم وعقولهم وجود الخالق سبحانه وتعالى.

التنظيم الشامل في النظام الكوني

امتداد للبراهين والأدلة الإيمانية التي ساقها الأستاذ عبدالرحمن الميداني قال عن التنظيم الشامل أن هذا الكون البديع المترابط، الذي لا توجد فيه ثغرة واحدة شاذة خارجة عن حدوده، ضمن الخطة المرسومة لهذا الوجود، وضمن الغاية المحددة له بين احتمالين لا ثالث لهما:

فإما أن يكون ناشئًا عن محض المصادفة الذاتية.

وإما أن يكون ناشئًا عن تدبير حكيم عليم قدير يفعل ما يشاء ويختار.

أما كونه ناشئاَ عن محض المصادفة فالعقل والواقع يكشفان أنه من الأمور المستحيلة لا محالة، لأن المصادفة إن أمكن أن تحدث شيئًا منظمًا في حدود جزئية جدًا، فإنها لا يمكن بحال من الأحوال أن تحدث نظامًا كليًا شاملاً، لأعداد لا حصر لها، وتخضعها لوحدة عامة متشابهة، وتستمر بها مع الزمن دون خلل، ودون ظهور أي ثغرات على سبيل المصادفة أيضًا.

ولأن المصادفة لا يمكن أن تجعل ظواهرها هادفة لغاية، وواقع هذا الكون يخالف كل ذلك، فهو خاضع لنظام كلي شامل، رغم أعداد وحداته التي لا تدخل في حصر مخلوق ولا تصوره، وهو مستمر مع الزمن، لا يعتريه خلل، ولا توجد فيه ثغرات.

هذا الدليل التنظيمي المستمر قد أرشد القرآن إليه بقول الله عز وجل: (الذِي خَلَقَ سبع سَمَاوَات طِبَاقا ما تَرَى فِي خلق الرحمن مِن تَفَاوُت فَارجِعِ البصر هَل تَرَى مِن فُطُور. ثُمَّ ارجِعِ البصرَ كرتين يَنقَلِب إليك البصرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسِير) ((الملك: 3-4)).

(طِبَاقا): بعضها فوق بعض.

(تَفاوُتا): تباعد، وهو بمعنى التضاد والتناقض والتعاند، ونفي التفاوت في الخلق دليل على أن المكونات به متكاملة، متعاونة، متناسقة بوحدة نظام شامل.

(هل تَرَى مِن فُطُور): من شقوق؛ أي: من ثغرات وتصدعات وخلل في وحدة النظام الشامل.

(كَرَّتين): رجعتين، للتأكد من صرامة النظام لكل ما خلق الله في كونه.

(خَاسِئا): متحيرًا، أي: من عظمة التنظيم الرائع المتقن، ويأتي لفظ خاسئ بمعنى: مطرود ذليل.

(وَهُوَ حسير): كالمنقطع، إذا لا يجد مع طول مدى النظر أي: خلل، وأي فطور، ويأتي (حَسِير): بمعنى خائب السعي.

ففي هذه الآيات من سورة الملك إرشاد إلى ظاهرة النظام الشامل في هذا الكون، واستمراره دون اضطراب أو اختلال، ولو أنه كان ناشئًا عن محض المصادفة لكان عرضة للاضطراب، والاختلال، وعرضه لشقوق وانفطارات وتناقضات لا حصر لها، تنتهي به إلى الفساد والظواهر المدمرة له.

وأكد الله عز وجل لفت نظر الإنسان إلى هذا الدليل العقلي العلمي الذي تدل عليه ظاهرات الواقع المشهود في هذا الكون بقوله تعالى: فَارجِعِ البصر هَل تَرَى مِن فُطُور. ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتين يَنقَلِب إليك البصَرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسِير) ((الملك: 3-4)).

وفي هذا تحد لصاحب النظر الباحث عن خلل في ظاهرات هذا الكون الذي هو خلق الرحمن، ليجد ما يتخذه مستندًا لإنكار الخالق، ولذلك اشتملت الآيتان على لفظين فيهما ما يصلح لتبكيته، إن كان هو كذلك وهما (خَاسِئا) (حَسِير) ((براهين وأدلة إيمانية، المرجع السابق، ص: 177)).

سبحان الخالق سبحانه وتعالى، والحمد لله رب العالمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٤٥٨٨ – الجمعة ٠٢ مارس ٢٠١٨ م، الموافق ١٤ جمادى الآخرة ١٤٣٩هـ