الإنسان لا يعيش وحده على كوكب الأرض بل يشاركه الحياة على الأرض بضعة ملايين من أنواع الحيوان، وإن لم يدرس العلماء منها إلا نحو مليون واحد، وكان من الطبيعي أن يلتفت الإنسان إلى تلك الرفاق التي تشاركه أيضًا كثيرًا من خصائص الحياة وبعض أساليبها،

وقامت بين الإنسان وبعض أنواع الحيوان علائق وثيقة كالتي تقوم بين البدوي وناقته، والفارس وفرسه، والراعي وكلبه وغنمه، والفلاح وبقرته، والصقّار وصقره، بل إن الإنسان كان يتخيل صور الحيوان في صفحة السماء، وهو يراقب كوكبات النجوم تنساب في أفلاكها في موكبها الجليل، ومن ثم كانت كوكبات الأسد والحوت والثور والجمل والعقرب والجدي، وناجى الشعراء والأدباء أنواع الحيوان والطير، وصاغوا منها ومن حركاتها وسكناتها وأصواتها تشبيهاتهم واستعاراتهم، وأنطقها القصاص والفلاسفة بما كانوا يخشون أحيانًا أن يجروه على ألسنتهم، فهذا ما نجده مثلاً في حكايات كليلة ودمنة كما ترجمها ابن المقفع في رائعته، وفي حيوان الجاحظ، وفي رسائل إخوان الصفا، كما أننا نجد كثيرا من الحيوان وعاداته في عجائب المخلوقات للقزويني، وفي حياة الحيوان الكبرى للدميري من بعده.

وأنواع الحيوان تسدي إلينا خيرًا كثيرًا؛ فمنها الغذاء والكساء والدواء والركوب والزينة والجمال كما هو معروف… ولكن هذا كله لا يقابل بعض ما جاء في السنة المشرفة، وشريعة الإسلام السمحة من جوانب الرحمة والرفق بالحيوان. (انظر حقوق الحيوان في الإسلام في كتابنا أخي المسلم اكتشف الإسلام، دار السلام للطباعة والنشر، ص: 188. 2007م)، وحمايته من التعذيب والعبث واللهو به واصطياده بلا ضرورة، وحبسه بلا طعام وشراب فإن هذا قد أدخل امرأة النار، وتحض السنة في الوقت نفسه على إطعامه وسقياه، فقد دخل رجل الجنة لأنه حمل الماء من البئر لكلب عطشان. (انظر معجم الحيوان من قاموس القرآن، عبدالحافظ حلمي محمد، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، ط: 1. ص: 3. 1999م).

والتنوع في الخلق من حيوانات برية، وبحرية، وطائرة، وحيوانات.. لا ترى بالعين المجردة وأخرى كبيرة فقرية ثديية ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، وأخرى زواحف لا أرجل لها، وحيوانات طويلة العمر وأخرى قصيرة الأجل، وحيوانات تبيض وأخرى تلد، وحيوانات للأكل والحمل والألبان، ومنافع أخرى كثيرة، وحيوانات ملساء الجلد لا شيء عليها، وأخرى مكسوة الجلد بالصوف أو بالشعر أو بالوبر أو الريش (أو الحراشيف).

وهناك اختلاف في الأشكال والألوان وفي الأصوات وفي طريقة الحياة وتناول الطعام، وفي الأسماع والأبصار، وآلات البطش وأشياء وأشياء لا يتسع المقام لذكرها، أما إذا ذهبت تفتش عن الحكم والأسرار في خلق تلك الحيوانات فستجد نفسك أمام خضم واسع منها.

يقول ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة 1/244 بعد ذكر الكثير من الحكم في خلق هذه الحيوانات: فما أغزر الحكم وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها، وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته، وقد زخر القرآن الكريم بعديد من الآيات في عالم الحيوان. (انظر منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود بن أحمد الزحيلي، المرجع السابق، ط: 1. ج: 1. ص: 378. 2004م).

وكل هذه الحيوانات وتنوعها تدلل دلالة قاطعة على وجود الخالق المقدر والمدبر والعليم والرحيم، وهي تدحض نظرية المصادفة والعشوائية في الخلق، وتكذب الملحدين الذي يزعمون أنه لا خالق لهذه المخلوقات والعياذ بالله.

براهين عقلية على وحدانية الله

الدين الإسلامي لا يدعو الناس إلى عقيدة غامضة أو معقدة متنافية مع العقل الصريح، ولكنه يقوم على براهين عقلية واضحة وصحيحة علميا تدل على صحة ما يدعو إليه، ولا يهاجم مبدأ أو معتقدًا آخر إلا بعد أن يقدم الدليل الواضح على بطلانه وبعده عن الحق والصواب والعلم، وتعدد المعبودات مثلاً يجعل البشر عبيدًا لتلك المعبودات، ومن جراء ذلك تقع الأعباء الكثيرة على كواهل عابديها، فقال تعالى: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أم اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أسماء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (يوسف: 39-40).

فالقرآن الكريم يبين الفرق العظيم والبون الشاسع بين عبادة إله واحد يخضع الجميع لحكمه، وما يتطلبه ذلك التوحيد من التخفيف عن كواهل البشر من التضحيات المرهقة، والشعائر الرهيبة، وبين عبادة آلهة متعددة، غالبًا ما تنشأ بسببها أنواع من الاختلاف والشقاق، كما يحاج القرآن الكريم المشركين بأن تعدد المعبودات ليس له أساس من شرع حق، وإنما هي أسماء سموها هم وآباؤهم، ولذلك فإنه يجب عليهم أن يرجعوا إلى عقولهم ويخلصوا العبادة لله تعالى وحده، فذلك الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه، قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: إن كونه تعالى واحد يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان أو ثالث لم يعلم من الذي خلقنا ورزقنا، ويرفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أننا هل نعبد هذا أو ذاك؟

قال صاحب تفسير الظلال: ويبدو هذا السؤال بهذه الصيغة كأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف، لأنه غير قابل أن يوجه على سبيل الجد أو أن يطلب عنه جواب وتتابع البراهين العقلية والعلمية على وحدانية الله تعالى وقدرته وحكمته يقول تعالى: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ* أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (النمل: 60-64).

قال أبو حيان في البحر المحيط: وناسب ختم كل استفهام في الآية بما تقدمه، فلما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك ألا يعيد إلا موحد العالم، الممتن بما به قوام الحياة فختم بقوله (بَل هُم قَوم يَعدِلُونَ)؛ أي: يعدلون عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع، ولما ذكر جعل الأرض مستقرًا، وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيهًا على تعقل ذلك والتفكير فيه ختم بقوله (بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمُونَ).

ولما ذكر إجابة دعاء المطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ناسب ذلك أن يستحضر الإنسان دائمًا هذه المنة فختم بقوله (قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى نسيان الإنسان إذا صار إلى الخير بعد أن زال السوء عنه.

ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم التي لا تهدي ولا ترسل وهم يشركون بها، ختمه بقوله (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ) وأعقب كل واحدة من هذه الجمل بقوله (أَءِلَه مَّعَ اللَّهِ) على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.

(منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود بن أحمد الرحيلي، المرجع السابق، ص: 431).

وختم الآية بقوله تعالى: (قل هَاتُواْ بُرهَنَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، والأمر يحتاج إلى براهين علمية كونية يقبلها العقل الصريح وتثبت إثباتًا لا خلل فيه عن صدق ادعائهم، فالبينة على من ادعى، وسيظل هذا الطلب قائمًا لكل ملحد كافر ناكر لوجود الخالق سبحانه وتعالى.

والحمد لله رب العالمين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٤٥٨١ – الجمعة ٢٣ فبراير ٢٠١٨ م، الموافق ٠٧ جمادى الآخرة ١٤٣٩هـ